قراءة لاشعرية في دواوين محمد السعدي الشعرية.

(1)
هناك حقيقة واحدة في الشعر:
إما أن تكون شاعرا أو لا تكون . وليس في وسع المرء إلا أن يتقبل هذا التبسيط المخل بروح الشعر نفسه إذا أراد أن يفهم طبيعة الشعر في بساطته وعنفوانه، فمهما حاولنا أن نختلف حول شعرية نص من النصوص فإننا في الأخير لا نختلف حول جمالية اللغة التي تحتويه والشعور الجميل الذي يصدر عن إيحاءاته وصوره، ولكننا مع ذلك لو أجهدنا أنفسنا في البحث عن معايير نتفق حولها في شعرية نص من النصوص فإننا نكتفي كما عند "الرياضيين" بموضوعات أو مسلمات ننطلق منها في أحكامنا، فكثير من "الكلام" الذي يتصدر صحافتنا الحديثة، بل الكثير مما يطبع هذه الأيام ليس فيه من الشعر إلا الاسم، وإذا طلبت مني أن أستدل على لاشعريته رأيتني عاجزا عن أن أعطيك دليلا واحدا أهدُّ به هذا الكلام مادمت ترى أنت أن هذا "الكلام" هو شعر كغيره من الشعر. إن المسألة هنا تتعلق بتقاليد القراءة "الشعرية" أكثر مما تتعلق بالشعر نفسه، وعلى هذا الأساس تستطيع أن تأخذ أي نص من النصوص لتقرأه قراءة شعرية مجردة عن سياقه فتصنفه في الشعر وأنت مرتاح البال، مطمئن النفس، لا يحاسبك أحد ما دمت مقتنعا بأن قراءتك لـ "الشعر" هي قراءة "شعرية"، لكن دعنا الآن نبتعد بك قليلا عن مجال القراءة الشعرية لنحاكم الشعر بطقوس أخرى ليست من جوهره، ولا تستطيع أن تضغط علينا فنوجهه توجيها مسبقا يقتل روح الشعر ويلوي عنق اللغة، لن ندخل معك أيها القارىء الكريم في متاهات النقاد، ولن نعكر صفوك بالمصطلحات والمفاهيم الشعرية التي تفهمها أو لا تفهمها، -وكنا قادرين على ذلك لو أردنا-، وإنما يكفينا هنا أن نلم مؤشرات قرائية من مجموعتين شعريتين للشاعر محمد السعدي، هما على التوالي الشـهيد(1) وعبير المجرة (2).
(2)
تعترضنا في بداية قراءتنا لهذين الديوانين إشكالية التجنيس، ونشير في هذا السياق بأن محمد السعدي في ديوان "الشهيد" لا ينص على أنه يتناول شعرا، بل ترك الديوان خلوا من أية إشارة واضحة إلى جنسه، فنحن مضطرون في هذه الحالة إلى التعامل معه على هذا الأساس، فالعملية في نظرنا مقصودة ولا مجال هنا للنسيان، لكن مقدم/مؤخر الديوان هو الذي نص على ذلك في كلمات مقتضبة:"محمد السعدي شاعر حد الاحتراق، لا يكتب قصيدته حتى يضع قلبه على الطاولة، فهو مرآته التي لا تخونه، مرآة يتشكل فيها الوجه والروح…" (3)، ومرد هذا في نظرنا أن محمد السعدي يهرب من الالتزام المجاني مع القارىء، وليس في نيته أن يفرض على القارىء قراءة معينة، فالمجموعة على هذا الأساس مفتوحة على كل القراءات، ومادام الشاعر نفسه لم يقيد قارئه بتعاقد معين، فليس أسهل على القارىء من أن ينطلق من مخزونه الثقافي والقرائي ليكون تصورا ما تجاه النصوص الواردة في المجموعة، وليست تقدمة/"تأخيرة" عبد الناصر لقاح إلا ممارسة لحق قرائي محكوم بشكل توزيع النصوص قبل كل شيء، وهو أمر مقبول عندنا، لكن المشكلة أن الشكل نفسه قد يكون خادعا في كثير من الأحيان، كما أنه ليس كل كلام مسترسل بدون أبيات أو أسطر يعد نثرا، فالمسألة ليست أكثر من "عرف خطي" أو تعاقد بصري بين منتج ومستهلك بلغة الاقتصاد المعاصر، وإلا فإن أغلب ما كتبه المتصوفة يدخل في باب الشعر، لأنه يزخر بـ "الخيال" الراقي واللغة الشاعرة (4)، ولهذا نعتبر هذه المجموعة "الشعرية" عبارة عن "مقامات" صوفية سيتولى محمد السعدي شرحها بتنويعات مختلفة في الدواوين اللاحقة(5)، أما بالنسبة للديوان الثاني الذي نعتبره أكثر نضجا -رغم أن معظم النصوص كتبت في نفس تاريخ الديوان الأول- فإن محمد السعدي يصر على التجنيس بخط عريض، ليجعل القارىء برغم أنفه يقرأ شعرا، وهو تعامل يسهل عملية تناول النصوص لكنه في نفس الوقت يخدع القارىء، لأنك في كثير من الأحيان تجد الشاعر يسافر بك عبر محطات مختلفة تستفز ذاكرتك التاريخية بالتوظيف المكثف للإحالات التاريخية والثقافية، وبدونها لا تستطيع أن تفهم الكثير من قصائده إذا قنعت بكلماته الواضحة، فالوضوح عنده أيضا خداع لمن يركن إلى البراءة المستترة وراء أسطره الشعرية، ففي بيت واحد قد تجد تاريخا يمتد إلى مئات السنين، حتى يصبح السطر الواحد لافتة تختصر عصرا بكامله (6) وهي طريقة تذكرنا بالشاعر أحمد مطر في لافتاته، وسواء كان محمد السعدي متأثرا به أو لم يكن، فإنه استطاع أن يرسم طريقته الخاصة في استعمال اللغة، فهو عكس "أحمد مطر" لا يقوم بتقنية عرض "الأحجية" ثم تنفجر القصيدة في الأخير فتسمع ضجيجها ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، بل تدفعك في يسر إلى تفكيك عناصرها لتبحث عن خيط رفيع يلم شعث القصيدة بعد عناء القراءة.
(3)
الإشكالية الثانية التي تطرح ونحن نتصفح الديوانين المتقدمين، هي إشكالية المدرسة الشعرية التي يمكن أن تؤطر أشعار محمد السعدي، ومع يقيننا بأن البحث في المدرسة الشعرية قد لا يفيد كثيرا في الشعر الحديث عموما وفي الحالة التي نتعامل معها بوجه خاص، فإننا مع ذلك نسارع إلى إبداء الملاحظتين التاليتين:
- بصريا فإن الديوانين معا حافلان بالرموز الدينية والتاريخية، وهذه الملاحظة تقودنا أردنا ذلك أم لم نرد، إلى التفكير في القواسم المشتركة بين شعر محمد السعدي، والشعر المصنف في إطار ما يسمى اصطلاحا في النقد المعاصر بـ "الشعر الإسلامي"(7)، ومع اعترافي بصعوبة تناول هذا المفهوم الجديد الغريب، خاصة في ما يتعلق بحدود المصطلح، بافتراض اتفاقنا عليها، فإن شعر محمد السعدي يقترب كثيرا من هذا الاتجاه ويجري في فلكه، لكن بحذر شديد فإن محمد السعدي من جهة ثانية سريع في ردود أفعاله، كبرياء الإنسان والشعر، وسلطة اللغة، وقهر الأحداث، تجعل منه شاعرا متمردا لا يقبل الخنوع والذل، حتى من اللغة نفسها، إنه بحق "شاعر حتى الاحتراق"(8)، شاعر متمرد على القيم السائدة، قيم لا تعير اهتماما للذات الإنسانية، عندها يصبح الإنسان مجرد حلقة، كغيره من أنواع المخلوقات مادة من المواد المبعثرة على طاولة الأحداث، ليس له نصيب من التميز الحضاري، والسمو الأخلاقي. هذه الوضعية المزرية في سلم العلاقات الإنسانية يقف منها محمد السعدي موقف الهارب الناكص على عقبيه، فإذا حاولت أن تقنعه بأن يسير مع الموجة العارمة، وأن ينساب مع التيار الجارف، فإنه يلجأ برباطة جأش قل نظيرها إلى عبير مجرته يستلهم منها عشقه للكلمة الطيبة يستمدها من عبق الكلمة الطاهرة من تاريخ القبيلة المثلى، تاريخ لا نقرأ عنه إلا في بطون الكتب الماضية، بمرارة أحيانا نرجو عودته، لكن التاريخ هو الآخر لا يستجيب لدعوات الشاعر مهما صدق، ولا يخضع لمعيار اللغة مهما سمت، ولا يعانق فينا براءتنا الشفافة مادامت دواليبه لا تتحرك بمنطق الحروف والكلمات، بل بدواليب المصلحة المتبادلة والصراع النفعي إلى حد الموت، هذه الأزمة القيمية هي جوهر شعر محمد السعدي، وكلمته التي اصطفاها لنفسه ردا على عبث العابثين وتملق المتملقين، إن محمد السعدي حينما يختار الكلمة الطيبة التي لا تخدش قيم الآخرين فإنه ينطلق من مبدإ أن الشعر الجميل يبقى جميلا مهما تلون بمسوح المدارس والاتجاهات، وأن الشعر العظيم يبقى عظيما سواء سمى نفسه إسلاميا أو كان غفلا من الاسم، فالشعر عنده ينطلق أساسا من الذات الواعية المتفاعلة مع الأشياء تفاعلا حيا، لكنه عكس الشعراء الذاتيين لا يبكي أبدا، واقرأ ما تشاء من شعره، فلن تجد سطرا واحدا يبكي فيه صاحبه، بل قد يحس القارىء بموطن البكاء في سياق من السياقات، فإذا بحثت عن كلمة واحدة تبكي فإنك لن تجدها، بل إن أدعى المواقف للبكاء يتحول عند محمد السعدي إلى واحة للغناء، في موقف الشنق لا يجد الشاعر أمامه إلا الغناء:
أغني للفراق وشهقة القتلى
وبي أرق!
تقوم الأقحوانة تحت مشنقة
وقضبان
أغني للشهادة والخلود بجنة الخلد.(9).
- الملاحظة الثانية هي أن محمد السعدي تخلص من "عقدة الصورة الشعرية"، فعلى العكس مما يلاحظ في الشعر المعاصر من التطرف المزدوج، فئة من الشعراء تجعل همها الأساس التكثير من الصور الشعرية، وتضخيمها حتى تصبح القصيدة معرضا للفنون التشكيلية، وهو تطرف في نظرنا لأنه اعتداء على تخصص الآخرين، ومهما حاولت أن تبدع لغة بصرية فإنك لن تستطيع أن تنافس أهل الاختصاص، ومهما حاولت أن تنمق اللغة بأنواع الأصباغ وضروب الخطوط والأشكال والظلال، فإن لغتك تبقى قاصرة عن منافسة اللون الطبيعي لون الوردة والماء والسماء، وأقل ما يقال في هذه الحالة أنك تمسخ الأشياء وتسيء إلى اللغة من حيث تظن أنك تمارس فنا نبيلا. والفئة الثانية من الشعراء – وأغلبهم محسوب على الاتجاه الإسلامي نستثني منهم ثلة معدودة- يسارعون إلى تقرير المعاني تقريرا، فيصبح كلامهم أقرب إلى خطب المساجد منه إلى الشعر، وقد يكون من المفيد لهؤلاء أن يبحثوا لأنفسهم عن جنس آخر يجلي من مواهبهم، ويجدون فيه متنفسهم. هذان الاتجاهان كلاهما متطرف في فهم الشعر وطبيعته، فالشعر ليس هو الصورة الشعرية كما أن البحر ليس هو زرقة الماء، ومن هنا تأتي أزمة التلقي في الشعر المعاصر، كما أن تقرير المعاني تطرف من نوع ثان، وقد يكون في نظرنا أكثر تطرفا من النوع الأول لأنه لا يسهم في ارتقاء الأذواق ولا نمو المدارك، بل أكثر من ذلك يقدم الفكرة مبتذلة واهية مكشوفة، تمارس السفور وهي تدعو في الصميم إلى الاحتجاب، وهذه ازدواجية في الخطاب عند هؤلاء حري بها أن تصحح.(10)، في حالة محمد السعدي فإن الأمر يختلف، لأنه يجمع بين التجربتين، فهو تارة يلجأ إلى الصورة الشعرية حتى تظن أنه يقصد إلى ذلك قصدا، حتى إذا ما اتخذت قرارا بتصنيفه في الموجة الجديدة التي اتخذت من الصورة مطية لها، فاجأك بأسطر تقريرية قريبة من النثر وما هي بنثر، فتتذكر أقطاب المدرسة الكلاسيكية وأعلامها البارزين، فيتركك حائرا بين أولئك وهؤلاء، وكأن مدرسة تتوارى خلف مدرسة دون أن تكشف عن نفسها، وهي مزية تحسب له لا عليه، لأنه يلجأ إلى الصورة حينما يستحيل التعبير بلغة تقريرية، ويلجأ إلى التقرير حينما تعز الصورة، فهو بذلك العمل يضع الأمور في أماكنها حيث ينبغي أن توضع، وفي ديوانه الثاني "عبير المجرة" شذرات كثيرة تشهد لما نقول، فتأمل قوله:
ستوقظني خطوات
وميلاد موج
قبيل شروق الشموس
فأعلن في الأرض أني
شهيد سأولد بين الحراب
وأختي ستأتي مقنعة بالحجاب (11)
فأنت لا تستطيع أن تفهم جمع "الشموس" إلا إذا قدرت محذوفا كما جرت العادة عند النحويين، لأن الجمع غير مبرر في عالم الحس والشهود، وليس في عرفنا سوى الحديث عن شمس واحدة، وكأن الشاعر يقصد "شمس الشموس" على نية القصر من حيث المعنى، وأنت هنا – إذا كنت مدمنا قراءة الشعر ولا تستهلكه كما تستهلك السلع التجارية- مضطر إلى أن تعطي نفسك حرية الخيال في اكتشاف هذا العالم الذي يرسم لك فيه الشاعر زمن التحقق وهو قبيل الشروق، ويرسم لك فيه الحالة: بين الحراب، وهي إيحاءات لا تدل أبدا على الاستمرار بقدر ما تدل على الفناء، في هذه اللحظة الدالة على الموت يعلن الشاعر أنه شهيد= ميت لكنه يولد لا يموت، وكلها صورة مركبة تذهب بك بعيدا إلى الطقوس الشيعية ومراسيم الموت وتاريخ الفتن في العهود الماضية، لكن يختمها الشاعر بجملة تقريرية بسيطة من حيث التركيب: وأختي ستأتي مقنعة بالحجاب، شعريا تستطيع أن ترفض هذه الجملة إذا شئت، أو أن تجعلها لافتة في مظاهرة سلمية، لكن مع ذلك فإن هذه الجملة لا يمكنك أن تستبدلها بغيرها دون أن تقتل المعنى الذي يريده الشاعر، لاحظ أن الزمن كله لا يتحقق إلا في المستقبل، فإذا تقرر عندك هذا وأدركته على الوجه الذي بينته لك، فوازن الآن بين حركة التاريخ الماضية بالإحالات التي حدثتك عنها وهذا المستقبل المجسد في الأفعال، أليست اللحظة عند الشاعر هي عبور نحو المستقبل، وأن التقريرية في هذا المقطع الذي عينته لك تخدم الصورة وتبين حدودها، وخذ ما شئت من مقاطع الديوان الثاني فإنك واقف على ما ذكرته لك وبينته.(12)
(4)
صنف القدماء في الرقائق والأخلاق مصنفات مختلفة، وبعضهم قسم هذه المصنفات إلى مقامات إيمانية غرضه منها تسهيل الارتقاء بالإنسان من مقام إلى مقام حسب همة الشخص واستعداده النفسي والجسدي، وصبره ومصابرته، ومن خصائص المقام في منهجية التأليف أن يدور فحواه على موضوع واحد، فمهما تفرعت موضوعاته فلا بد أن تجتمع كلها في نفس المقام، وهذا المنحى شبيه بالدراسات التيماتية في الدرس النقدي الحديث، ابتدأت بهذه الإشارة لأنني وجدت أن دراسة شعر محمد السعدي مفيدة إذا ركزنا على هذا الجانب فيه، خصوصا أن هذه الطريقة تساعدنا على كشف الخيوط الممكنة لقراءة تيماته الأساسية، وبذلك استطعنا أن نرجع الديوانين معا إلى مقامات ثلاث هي في نظرنا مدار شعر محمد السعدي، وهذه المقامات هي على التوالي:
·         مقامة الشعر.
·         مقامة الشهادة.
·         مقامة المنفى.
-1  مقامة الشعر أو الإبداع المستحيل:
اعتنى محمد السعدي بالشعر وهمومه عناية خاصة، إلى درجة يمكن القول معها إن الشعر هو هاجسه الأول، فمن أصل ثلاثة عشر نصا في ديوانه "عبير المجرة" تكرر ذكر الشعر إما صراحة أو ضمنا، باصطلاحه أو بمشتقاته ثلاثة عشر مرة، أي بمعدل مرة واحدة في كل نص شعري، في حين تكرر نفس الموضوع في ديوان "الشهيد" البالغ عشرة نصوص سبع مرات، وكأن القصيدة عنده لا يمكنها أن تقوم لها قائمة دون أن يكون الشعر حاضرا فيها بوهجه الخاص وهمومه المؤرقة، فالشعر عنده هو قيمة القيم، التي عنها يدافع، وبدون هذا الدفاع لا يمكنه أن يبلغ صوته المتقطع مبشرا بعهد جديد وقيم مبنية على الحب والتسامح والرأفة بالآخرين، على أساس أن الشعر هو موطن تحقق الذات الشاعرة:
نشيد بالدم المسفوح مكتوب
وتلك مدائن تبنى على جسدي
أنا الإنسان والزفرات إبداعي
وأشعاري انفجاري والمدى وطني (13).
إن الشعر هنا مقوم من مقومات الحياة، فهو السلاح الذي يحارب به الشاعر صراعه مع الكائنات، الشعر انفجار، وليس هناك انفجار برىء يولد ليموت، انفجار النفس أمام واقع معفن يفرض على الشاعر فرضا، ويدعى إليه ليسير في ركبه، لكن الحياة لا تعترف بسلطة الكلمة، وإذا وقع أن اعترفنا لها بهذه السلطة الرمزية، فعلينا أن ننتظر أجيالا بعد أجيال لنرى ثمارها بأي شكل من الأشكال، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا النص كتب في "باريس" تأكد لنا أن الهموم الشعرية لا تعترف بوطن، ولا يكبح جماحها المدى مهما بعُدَ، إن هذا الانفجار سيتحول عند الشاعر في ما بعد إلى تمرد على المؤسسة الرمزية للشعر والشعراء، فمثلما تجتمع "المافيا العالمية" على تجارة الممنوعات وتبيح لنفسها أنواع المحظورات، كذلك يمثل الشعراء "عصابة" مصالح يتغزلون في عورات النساء ويصفون الورود وضروب الجمال من حيث كان ينبغي لهم أن يعانقوا قضايا الأمة ويدافعوا عنها:
وبيروت ليلا
بها الموت يعوي
وينشد شاعر هذا السلام
قصيد الغرام
بعيد العشاء
وبيروت في النعش! (14)
فهم بهذا الاعتبار أشقياء أمام طفلة من القدس تسأل الشاعر في براءة عن هذه الأمة:
سأمضي
فأبحث عن موجة في فم الأرخبيل
أقبل صبري وأشدو رحيلي
عذارى الصحارى
ولون النخيل
هنالك!
تمردت وحدي على دولة الشعراء
وتسألني طفلة القدس عن أمة الأشقياء. (15)
إن عصابة الشعراء الوصوليين هذه لا يمكنها أن تسود، ولا ينبغي للشعر أن يستمر فهو أكذوبة خادعة نلمع بها الواقع مثلما نلمع صورنا في المرآة، ولذلك يستوي عند محمد السعدي في الدرجة الشعراء والعلماء والجبناء، كلهم لا يقومون بواجبهم:
مزق قريضك يا أخي
فالعقم للشعراء والعلماء والجبناء! (16).
عند هذا الحد يحس الشاعر محمد السعدي بالانهيار التام، فيمسي كل شيء عنده منهارا، ويعلن عن دولته الشعرية:
دمائي قصائد
بلادي حصـــائد…! (17).
حتى الأشياء التي كان يرجو أن ينبعث منها بصيص من الأمل الخفي تنهار، بيروت والعروبة والشعر:
تنهار بيروت الشهيدة والعروبة والدمى
والشعر انهيار.(18).
لقد انهار كل شيء فجأة، لم تعد الأشياء هي الأشياء، ضاعت خرائط الأسماء، مفاتيح الوصول، وفي المقابل كثرت الشياطين، فما كان من الشاعر سوى أن يبحث عن قبس من الغيم ليخلطه بزوبعة من زوابع الشعر، وأنى له بتوابع وزوابع ابن شهيد، أو شياطين عبقر، أو غيمة الطائي، هذه الأشياء الجميلة التي كانت بالأمس القريب رمزا للعبقرية الفذة والطموح الشعري النبيل أصبحت اليوم عقبات في وجه الشاعر، ضيعت الأسماء والمسميات، وما خلقت الأسماء والمسميات إلا لتعلم للناس قاطبة، لكن في عالم مليء بالفوضى، مليء بالقتل والاغتيالات ومشاهد الدماء، لا مجال لمعانقة الكلمة والبوح بأسرارها:
علم هناك وطفلة مقتوله!
وعلى الجريدة شاعر يغتال
تغدو القصيدة والقضية لجة
طاحونة
تتبدد الأسماء والألقاب…(19).
ولذلك يعلن الشاعر عن نهاية القصيدة غرقا:
طوى الموج جسر القصيد
وروغ القرود
لمد الصمود…! (20).
ويعلن حربه على الشعراء المتملقين:
[…]
وأمحو الليالي لأعلن حربي على شاشة
الشعراء الأولياء. (21)
على أن الشعر عند محمد السعدي يصبح جواز سفر إلى الماضي، حنين مؤرق نحو الصفاء الذي ولى فجأة، لكن الشاعر لا يندهش أمام عظمة التاريخ، لا يقرؤه في الظل، بل يحاول أن يشارك في صناعته وصياغة بنوده، التاريخ يصنعه الأقوياء، ولا مجال لمن يتفرج عليه بعد أن يصاغ،" هكذا الحياة، الطغاة والضعفاء يصبحون بعد الموت مجرد أسماء يلوكها التاريخ، وإن كانوا في كتب التاريخ وتسلسل الأسماء، وورودها في الحوادث على درجة واحدة: اسم مساو لِاسم، إلا أنهم عند الله ليسوا كذلك، ولا أثرهم في الحياة كذلك، كما أن قتلى الكفار في معركة ليسوا على درجة قتلى المسلمين في المعركة نفسها وهذه عبرة الحياة (22 )، على أن هذه النظرة إلى التاريخ تبقى نظرة نسبية لأن التاريخ لا يميز بين المسلم وغير المسلم، لا يعترف إلا بالذي يترك فيه أثره إن سلبا أو إيجابا، في عجلة التاريخ يقف بشار بن برد معانقا عمر بن الخطاب، وقد يكون أثر "هتلر" أبرز من أثر عظيم من النساك في تاريخ الأديان كلها، أمام هذه النظرة إلى الحياة والتاريخ يختار محمد السعدي اتجاها "كونيا"، حيث تتعانق الأشياء في تناغم تام، اقتناعا منه أن جميع المخلوقات متساوية من حيث الجوهر أمام حركية الإبداع:
والكون ملحمة الورى
تتعانق الأطلال والأغلال والأحجارُ
والأشجار والأقمار والأسفار والأفكارُ
والأشعار والأعمار…(23)
2-  مقامة الشهادة والاستشهاد:
ليس في شعر محمد السعدي موضوع يشدك إليه شدا، ويأخذ انتباهك أخذا، أكثر من موضوع الشهادة والاستشهاد، فهو هاجس الشاعر الذي لا يكاد يكتب سطرا شعريا واحدا دون أن يتسرب إلى شعره قبس من أطيافه، وهو إصرار لا نعتبره غريبا في الشعر الإسلامي، بل ولا في غيره من الآداب العالمية، وإن بمسميات أخرى أفرزتها طبيعة اللغة ومفرداتها، وثقافات المجتمعات المختلفة على مر الأزمان، ففلسفة الموت حاضرة بقوة في الشعر القديم بصور متنوعة، بل من الشعراء من بحث عن الموت بقدميه، فلما اطمأن ببعد مناله أقدم عليه راضيا مرتاحا قرير النفس، هربا من قسوة الحياة وظلم الناس، أو طمعا في الحياة السرمدية بعد الموت، وهي حالات وقف عندها علم النفس الحديث بكثير من التفصيل وربطها بالجنون والعبقرية تارة وبالعقد النفسية والحالات المرضية تارة أخرى، ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه الظاهرة الغريبة في شاعر- أي شاعر- نحسبه يتغنى بالحياة ومباهجها ويفرح لشروق الشمس، ويغني للغاب، ويعلم الناس الحب، أليس الشاعر نبيا يبشر بالقيم الخالدة؟!، لكن موضوع الموت، أو لنقل الشهادة والاستشهاد، عند محمد السعدي يختلف كليا عن الموت عند كثير من الشعراء المعاصرين، وإذا شئت أن تقارن وكنت من مدمني قراءة الشعر الجميل فقارن بينه وبين "أمل دنقل"، أو بينه وبين "الشابي"، فمحمد السعدي في شعره لا يميز بين موت ولا حياة، فهما عنده سيّان، فنحن في غالب الأحيان حينما نهم بفعل حياتي ما نطلب الحياة وطول العمر لإنهاء ذلك العمل، لكن محمد السعدي لا يحقق شعرَه إلا بالموت/الشهادة، فالشهادة ولادة، مخاض، منها تنبعث الحياة، الشهيد لا يموت وإنما يولد، وبغض النظر عن التوجه القرآني الذي يحكم رؤية محمد السعدي، فإنه يلون موضوع الشهادة بألوان الحياة المختلفة معتمدا أجمل ما في الطبيعة من عناصر: الثريا، النجوم، النهر…حتى تتحول عناصر الحياة إلى عناصر للموت:
تحت الثريا والنجوم تزغرد
ولد الشهيد وحيدا
وتلظى
في خندق ثم انجلى
والأرض زوبعة وقبلتها سراب من لهيب…(24)
وقد تبدو سمات الانتحار واضحة في شعره بعد عسر القراءة، وأظن الشاعر لا يستطيع أن يبوح بها لأقرب أقربائه انسجاما مع الروح الإسلامية، والنظرة الكونية التي آمن بها إيمانا عميقا، والتي تحكم الإبداع الشعري عنده، ولكنك رغم اختلافك مع الشاعر ووجهة نظره، لا يسعك إلا أن تسجل هذه الملاحظة عليه، فلعلها زلة قلم قصمت ظهر البعير، لكنها كلمة موحية، أخذت موقعا لها في شعره، ولست أدري إذا كان قد انتبه إليها أو لم ينتبه، جاء في الديوان:
تعود ذئاب الخريف الرمادي
وترسو
على جسدي البالي
دمي غصة الانتحار
أصيح
وتشتعل الأقحوانه
فلا عرب في كتاب الشهادة
وعفوا
سأرتحل اليوم (25)
فهل يجيز الشاعر "الإسلامي" لنفسه أن يفكر في الانتحار، مجرد التفكير، رغم ما قدمه من تبريرات في الأسطر الشعرية التي قدمتها؟ على أن الذي يشفع في نظري للشاعر من الوجهة الإسلامية هو أنها جاءت يتيمة في سياق الديوان، كتبها في عفوية تامة دون أن يراجعها، تحت ضغوط الشعر ومخاضاته، وهذه الظاهرة عندي شخصيا ليست سلبية تماما، وهي من وجهة نظر"الرؤية الإسلامية" للأدب غير مقبولة، فعلينا ألا نتدخل في إبداع الشاعر ونحاكمه قبل إنتاج النص، بأية مرجعية كانت، إسلامية أو غير إسلامية، ولنترك المسألة لتربية الشاعر وروح عقيدته، فلا يكفي لإنتاج أدب "إسلامي" أن نسطر للشاعر كذا عددا من "البنود" ونطلب منه تطبيقها في إبداعه، وهذا لعمري سوء في الفهم، وتبسيط مخل بروح الأدب لا ينتج أدبا إسلاميا راقيا، بقدر ما ينتج مرتزقة كلام يلوكون عشبا نضيرا بأسنان من ورق، وقد وردت كلمة الانتحار عند محمد السعدي تعبيرا عن مرارة خانقة، عندما فتش عن معاني الشهادة في أمة ضربت المثل الأعلى في الموت من أجل المبدأ، ففتح كتاب الشهادة فلم ير أحدا، فكأني به يردد قول من قال:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
فقرر محمد السعدي الارتحال من هذا العالم الذي أصبحت الشهادة عنده مبعدة من قاموسه اليومي، وأصبح الخنوع والذل هو السائد في أمة أصابها الوهن وكراهية الموت، هذه الوضعية التي لا يقبلها محمد السعدي أفرزت عنده رجوعا نحو الذات حين بدأ يطلب الشهادة لنفسه، لعله يكفر عما بدر من العرب ويصبح رمزا للفداء:
مناي الرحيل
إلى جنة الشرفاء
في موكب الشهداء (26)
وقوله:
أغني للفراق وشهقة القتلى
وبي أرق!
تقوم الأقحوانة تحت مشنقة
وقضبان
أغني للشهادة والخلود بجنة الخلد (27)
كما أن مفهوم الشهادة والاستشهاد يجعل منه محمد السعدي تقويما/ تأريخا لحياته، فلم تعد السنوات والشهور والأيام صالحة لتقويم البؤس البشري، ولا لدفق الدم في القلوب، وإنما اختار تقويما جديدا فلنستمع إليه يقول:
[…]
وجارية تشتكي
يضيق سلامي
فأختار تاريخ شنقي
على ضفة الزهر ظهرا (28).
بل إنه يؤرخ لإحدى قصائده بجراحه: "وجدة بتاريخ: الجرح الخامس عشر في أسفل القلب (29) بل إنه أكثر من ذلك يمتلك عصا سحرية يحول بها جراحه إلى عصافير تتلو صلاة الجهاد:
تصادر أضواء هذا الوجود
ويقتلع الطلح كي ينصب المرتقى بالنجود
أحول جرحي
عصافير تتلو صلاة الجهاد
يطل الهلال، يسيل دماء
تصير خلايا الفؤاد
سيولا، خيولا، رعودا وجسرا…(30)
وهو ما يبين الأثر النفسي العميق في تفاعله مع المحيط الخارجي بأحداثه وتفاصيله، ليس جرحه إلا لدمة واحدة من لدوم الجسد العربي الممزق أصلا، وليس من حقنا أن نطالب الشاعر أكثر مما يرتضيه هو لنفسه، فحينما نكون خارج الأحداث قد نسوغ لأنفسنا حق النقد، ونقول ببساطة بريئة في أحسن الأحوال: ألم يكن من الواجب على الشاعر أن يكون أكثر تفاؤلا، وأقل تيئيسا، لكن هذه الصورة الكلامية ليست في الواقع إلا تزييفا للحقيقة التي يؤمن بها الشاعر ويدافع عنها دفاع المستميت، كيف يطلب من الشاعر المعاصر أن يكون متفائلا بلا حدود وهو يرى أن مملكته الشعرية استولى عليها هواة الكلام ومسترزقة الفكر، إننا بفعلنا هذا نكون كمن يطلب من الجرذان أن تنظف أفواهها في الصباح بالماء ومعجون الأسنان، وحين ندخل مجال الشعر، ونتجول قليلا في أدق تفاصيل النفس الإنسانية ندرك أن الشاعر الصادق مع نفسه لا يستطيع أن يزوق الإحساس الجميل والشعور النبيل ليرضي طائفة من المحسوبين على الشعر.
وفي لحظة من اللحظات يصبح مفهوم الشهادة والاستشهاد عند محمد السعدي مرادفا للبناء بأدق معانيه، تغيير جذري لاقتلاع الحدود الوهمية بين الإنسان والإنسان، بين العقل ومخلفاته/ فضلاته:
باسم الشهيد وباسم قافلة العبور
أمضي لأقتلع القيود
كاللغم أقتلع الحدود
أبني منارات الجسور
رغم انهيار دياري
والتيار. (31)
ولا غرابة إذا رأينا محمد السعدي يعتبر التاريخ هو أول الشهداء، التاريخ العربي برموزه الخالدة، تاريخ اكتسب قوته من قوة رجاله، فأعزهم وأعزوه، اقتبسوا من فيضه شموخهم وأنفتهم، فأصبحوا منارات عند العدو قبل الصديق:
شارة فوق الشموخ
ينحني التاريخ إجــلالا لعز الأقوياء
إنه أول أحفاد الشهيد. (32)
فلا مجال في التاريخ للضعفاء، التاريخ لا يعترف إلا بالذين يغذون نهره بروافد من آثارهم الخالدة، والتاريخ الحديث يشهد بهذا، فمع أن تاريخنا الحديث هو بلا شك تاريخ دموي إلى أبعد الحدود، إلا أنه مع ذلك تاريخ جني ثمار العقل البشري في أرقى صوره، ولا يستطيع العاقل أن يكون خارج التاريخ بذريعة أن العصر عصر ظلم وانحطاط أخلاقي، ومتى كان في التاريخ كله عصر لم يسلم من الرذيلة والحروب؟! الفرق البسيط أن انتشار الإعلام وقوة تركيزه أظهرت للعيان ما كان بالأمس مستترا، وأفصحت عما كان إلى أمد قريب لا يعرفه إلا المقربون من سدة القرار، فبدا الأمر وكأننا نعيش عصرا استثنائيا، لكن قراءة عميقة لسيرورة التاريخ توضح بجلاء أن عصرنا ليس سوى حلقة واحدة من حلقات متلاحقة، وأن الأمر طبيعي من هذا الجانب.
لا يخفى في شعر محمد السعدي أنه متعاطف مع القضايا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فليس هناك بؤرة ظلم إلا أشار إليها محترقا، الأزمة الفلسطينية حاضرة بظلالها والحرب الأفغانية والعراق…، مما يثبت أن الشاعر يعيش عصره ويوثق الجانب الأكثر مساسا للنفس الإنسانية، وهو الإنسان البريء الذي تقتله الآلة العسكرية، وهو لا ناقة له ولا جمل في النزاع، الأطفال الذين لا يميزون بين أقلام الرصاص وفوهة مدفع رشاش، يجدون أنفسهم ثمنا لصراع المصالح والاسترزاق:
وأمشي
كنهر يفيض دما فوق مائدة الاغتيال
وأمسك خطو القتيل
ودمع الفطيم
لتصعد شمس الخليل (33)
كما يتخذ من الجهاد الأفغاني قدوة ومنارة يهتدي بها يقول:
أفغان فوق تلال قلبي والربى
بين سطور شعري والنهى
وخريطة الشهداء بين يدي هدى. (34)
ويعتبر هؤلاء الشهداء من أجل قضيتهم العادلة أحجارا كريمة مقدسة، لأنهم ماتوا ليحيوا، ونحن نحيا موتنا الأبدي، وليس لنا من خلاص إلا طلب الشهادة:
حـــان ميلاد البتول
فلتطوق ساعديك اليوم بالكون الوليد
ولتيمم صوب كنعان الوحيد
كي تنادي يوم عيد
تلك أحجار كريمة
وأنا أرجو الشهادهْ! (35)
3-  مقامة المنفى أو سفر الروح:
الإحساس بالمنفى يلاحقك في شعر محمد السعدي، تراه جاثما وراء كل لفظة شعرية من ألفاظه، ورغم ذلك لم يخصص لهذا الموضوع إلا نصين اثنين تحدث فيهما عن النفي والمنفى بصراحة لا تقبل التأويل، فهو مسكون بالنفي واعتزال العشيرة، باحثا عن الاغتراب في أحضان السجون والظلام، ولو توقف عند هذا طويلا لأجاد وأبدع، فهو يذكرنا بالتراث القديم متمثلا بأبي فراس الحمداني:
سأهدي للفلاة فؤادي المنفي
وأعتزل العشيرة حين تنحتني
طحالب بين أشجار الكروم
وأمزج صرختي بالاغتراب
وجنة العصفور
سأروي للزنازن قصتي الأولى
وأحكي للظلام رسائل السجن
وأنت تصادرين فصول أحلامي. (36)
يجمع محمد السعدي في هذا المقطع بين أوزر ثلاث: المنفى والطبيعة والمرأة، وهي عناصر اعتاد الشعر العربي عليها، لكن الشاعر لا يفصل فيها تفصيلا بل يكتفي بالتلميحات الموجزة، لا يثرثر، ولعل هذا ما جعل القصيدة عنده قصيرة بالنظر إلى ما يعرفه الشعر المعاصر.
إن المنفى يشبه الشعر من نواح عدة، فكما أن الشعر يحرر المبدع من إسار اللغة، ويوحده بالكائنات، معتمدا تجاوز المألوف وأنظمته الاختزالية، فإن المنفى يؤكد هذا الخرق ويزكيه، فهو يجعله يعانق الجرحى، بل أكثر من ذلك يوحده مع نخيل أجداده، فالمنفى إذا يمثل عند السعدي رجوعا بالتاريخ إلى الوراء واستقراء آلياته لفهم الحاضر، يقول محمد السعدي:
والوجه بيع على رصيف الانفجار
وأمر للتيه الأخير
ألقي فؤادي في الهشيم
في الحريق
وأمر للمنفى وأسلاك السجون
لأعانق الجرحى ونخل جدودي. (37)
على أن هناك صورة أخرى من صور النفي عند الشاعر، فهو كثير التنقل لا يستقر على حال، فيضيف لغربة الشعر واللغة غربة المكان، ودليلنا على ذلك أمكنة كتابة قصائده، فنحن نستطيع بيسر وسهولة أن نرسم خارطة لتنقلاته المكانية من خلال الديوانين السابقين، ففيهما من البلدان: المغرب والجزائر وفرنسا، وفيهما من المدن وجدة وتازة وطنجة والصويرة وباريس ومونتارجي ووهران وتلمسان مما يدل على كثرة التنقل وعدم الاستقرار وهي ظاهرة عرف بها كثير من الشعراء، والغريب في شعر محمد السعدي أن "النفس الشعري" عنده ثابت لا يتغير فالقصيدة لا تطبع بطابع المكان، فأنت مثلا لا تستطيع أن تميز بين قصيدة كتبت في باريس وقصيدة كتبت في وجدة أو تلمسان ومرد ذلك في نظري إلى أن محمد السعدي كان يحمل همومه معه أنى رحل، لاحِظ أنه في باريس يكتب "نشيده بالدم المسفوح"(38) فكيف تكون في باريس ويأتيك هذا الإحساس؟! كيف يغني الشاعر في باريس "للفراق وشهقة القتلى"(39) إلا أن يكون شاعرا تنسيه قضيته التي يدافع عنها سلطة الناس والمكان؟

 
الهوامش:
  1. صدر عن المطبعة المركزية بوجدة 1989.
  2. صدر عن المطبعة المركزية بوجدة 1990.
  3. انظر الغلاف الخارجي لديوان الشهيد تقديم عبد الناصر لقاح.
  4. اقرأ على سبيل المثال ما كتبه أحمد بن المبارك في كتابه: الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، دار أسامة، بيروت/1987.
  5. سنفصل الكلام في هذه النقطة في مقالة لاحقة.
  6. راجع على سبيل المثال عبير المجرة، ص 23-25-31-41-43-55-…
  7. -عرف محمد قطب الأدب الإسلامي في كتابه منهج الفن الإسلامي ص 256/1961 بقوله:"التجربة الشعورية الخاصة المفرغة في صورة جميلة موحية من القول الصادر عن التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة".
  8. -كلمة عبد الناصر لقاح الغلاف الخارجي لديوان الشهيـــد.
  9. الشهيد، ص 19.
  10. انتبه إلى هذه الملاحظة أحمد شراك في مقال له نشرته مجلة "البحرين الثقافية" (بحرينية) تحت عنوان: (تأملات في الكتابة ((هنا)) و ((الآن)) الاحتجاب والحجاب)، ع35/2003 ص 7.
  11. عبير المجرة، ص37.
  12. راجع مثلا عبير المجرة: ص 42- 43- 56-61- 52
  13. الشهيد، ص17
  14. عبير المجرة،ص 32.
  15. الشهيد، ص27
  16. الشهيد، ص 65
  17. عبير المجرة،ص7.
  18. الشهيد، ص 64.
  19. عبير المجرة، ص 23.
  20. عبير المجرة، ص 14. ولعل قصيدته جنازة شاعر تصف بعمق فجاعة الشاعر في موقف موته ص59 من نفس الديوان.
  21. عبير المجرة،ص 35.
  22. حيدر قفه: (كلمات فلسفية في مجموعة جهاد الرجبي القصصية (( لمن نحمل الرصاص؟))، مجلة المشكاة (مغربية)، ع20/1995، ص 52.
  23. عبير المجرة، ص 70
  24. -الشهيد، ص11.
  25. الشهيد، ص 30.
  26. عبير المجرة، ص7
  27. الشهيد، ص 19.
  28. -الشهيد، ص 50.
  29. الشهيد، ص 13.
  30. عبير المجرة، ص 13.
  31. الشهيد، ص 69
  32. عبير المجرة، ص 20.
  33. الشهيد، ص52.
  34. عبير المجرة، ص 69.
  35. عبير المجرة، ص 48.
  36. الشهيد، ص 55.
  37. عبير المجرة، ص 52.
  38. الشهيد، ص 17.
  39. الشهيد، ص 19.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظام البطاقات البحثية بالصور

شرح منظومة تفصيل عقد الدرر في الطرق العشر لنافع - لشيخنا الجليل محمد السحابي (7)

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.