بين الوحي والقراءة والقرآن (رأي للنقاش).


كلمات ثلاث نحاول أن نتأملها جميعا:
الوحي.
القرآن.
القراءة.
وردت كلمة وحي بكل مشتقاتها في كتاب الله 78 مرة وبدون ذكر  المكرر منها 22 مرة وكلمة وحي لا تخرج في معانيها العامة عن المجالات التالية:
1- الوحي للأنبياء، بمعنى تبليغهم بكلام الله ليبلغوه بدورهم للناس.
2- الوحي للمخلوقات من غير الإنسان كما في حالة النحل، ويراد به رسم طريق الغريزة أو الفطرة للاهتداء إلى القيام بعمل ما.
3- الوحي بمعنى الإخبار كما في حالة الوحي للملائكة.
فالوحي إذا هو تلقي المعرفة الإلهية سواء بواسطة كما في حالة جبريل أو بغير واسطة كما في حالة النحل. لكن المهم في كل هذا أن الوحي لا يدخله أي تغيير من طرف الواسطة فهو تلقين حرفي، أو معرفة لا تقبل التصرف. وهي معرفة مطلقة غير قابلة للنقاش.
الوحي بتعبير آخر هو معرفة مختلفة عن أنواع المعارف الأخرى، فالأدب على سبيل المثال في جزء منه يستمد قوته من الطاقة الإبداعية عند مبدعه، وكثيرا ما يعتقد المبدع أن هناك وحيا ما هو الذي يمده بالقوة اللازمة للإبداع، لكن الفرق هو أن الإبداع الإدبي يمكن أن يقبل النقد بل ويقبل المساءلة سواء بالزيادة أو بالنقصان، في حين الوحي الإلهي وحي مغلق يتقبل كما هو دون تدخل خارجي.
لتلخيص الفكرة وتبسيطها أكثر نقول: إن الوحي الإلهي هو مجموعة من المعطيات والمقدمات المنطقية غير قابلة للتعديل فهي بمثابة مسلمات تنطلق منها المعرفة الإنسانية في شكلها الديني والدنيوي، وأن أي تدخل في هذا الوحي يعد بالأساس تدخلا في مشيئة الله.
لنلخص أكثر: الوحي هو نص/إطار لا يقبل التعديل.
أما كلمة قرآن وكلمة قراءة بكل مشتقاتهما فوردا في كلام الله 88 مرة وبغير تكرار 30 مرة، بمعنى آخر إن القراءة الدلالية الإحصائية لهذه الكلمات تبين بوضوح أهمية القرآن والقراءة على كلمة وحي، ولعل هذا الاستنتاج راجع إلى أن الوحي لا يوجد في دائرة اختصاص الإنسان المسلم وليس من حقه الاعتراض على مضامينه، في حين كلمة قراءة وقرآن من أخص الخصائص التي ترتبط بحياة المسلم سواء في الدنيا أو الآخرة.
لا يهمني الآن تعريف المفسرين والأصوليين للفظة قرآن سواء في مفهومهما الصوري الذي تمتلىء به كتب القوم أو المفهوم الشكلي الذي يركز على التعريف الشكلي وحدود البداية والنهاية وترتيب سور المصحف الشريف.
لكن لنلق نظرة بشكل مختلف عن لفظة قرآن:
لا أعرف شخصيا بيتا شعريا جاهليا واحدا صحيحا وردت فيه هذه الكلمة،- من يعرف فعليه أن يخبرني- في انتظار أن تصححوا لي هذه المعلومة دعوني أستنتج أن كلمة " قرآن" هي من الكلمات الجديدة كل الجدة في اللغة العربية ظهرت بظهور الإسلام وهي من الكلمات التي سحرت المسلمين آنذاك بقوتها الإيحائية ودلالاتها غير المنتهية، تماما ككلمة كافر التي كانت تعني كفر الحب أي دفنه في الأرض فتحولت مع الإسلام إلى معنى جديد هو الشرك بالله، وككلمة "جاهلية/أو جاهل" التي كانت تعني الشاب الذي لم يكتمل نضجه بعد فأصبحت مع الإسلام تعني شيئا مختلفا وتدل على فترة سابقة على الإسلام.
كلمة قرآن إذا كلمة جديدة كل الجدة. ومعناها جديد كل الجدة، وإيحاءاتها الدلالية جديدة كل الجدة، فقد جاءت لترسم نوعا جديدا من الفكر أو لنكون أكثر دقة نوعا جديدا من المعرفة.
دعونا نتأمل الآن هذه السلسلة الدلالية التي تبتدىء بكلمة وحي وتنتهي بكلمة قرآن،نقطة بداية الوحي كما مر بنا منذ قليل تبدأ بالله باعتباره هو مصدر المعرفة الدينية والدنيوية غير القابلة للتعديل أو التحوير ولا نريد أن نقول التزوير. في حين كلمة قرآن ببساطة شديدة تعني استقبال عامة الناس لنص الوحي بلغة يفهمونها وبخطاب يستطيعون فهمه وتطبيقه.
القرآن بكلمة واحدة هو ترجمة الوحي إلى لغة إنسانية مفهومة، بلغة أكثر بساطة القرآن هو فك لرموز معقدة وتحويلها إلى رموز بسيطة يقبلها الوعي البشري ويفهم ألغازها.
نستطيع أن نؤكد الآن بكثير من اليقين أن القرآن هو المستوى الثاني من مستويات الوحي أو الدرجة الثانية من درجاته إذا جاز لنا أن نجعل القرآن مستويات ودرجات.
بعد ذلك تأتي كلمة"قراءة"، هذه الكلمة هي المستوى الثالث من مستويات البناء القرآني، هذه المرحلة هي أكثر المراحل التصاقا بالإنسان، وليست التفاسير القرآنية إلا مظهرا من مظاهر قراءة القرآن أي المحاولات المتعددة لفهم النص القرآني وآليات اشتغال اللغة فيه وكذلك المقاصد الشرعية الكبرى وغير ذلك مما بحث فيه العلماء وقتلوه درسا وبحثا.
من حق القارىء الكريم أن يسألنا إلى أين تريد أن تصل بنا مع كل هذا الكلام، فنحن نعرف الوحي ونعرف القرآن والقراءة، لكنني أريد أن أنبه عموم المسلمين وخاصتهم أن المستوى الأول أي الوحي والمستوى الثاني أي القرآن لا مشكلة لنا فيه/معه، المشكلة كل المشكلة في المستوى الثالث. فقد ظهر لي أن كثيرا من المسلمين يعطون أهمية كبيرة للمستوى الثالث ولا يهتمون بالقرآن نفسه، يعطون أهمية لتفسير القرآن أي الاجتهادات البشرية في فهم النصوص القرآنية على حساب القرآن نفسه، متناسين سواء عن حسن نية أو بسبب حسابات معينة أن تفاسير القرآن الكريم ليست قرآنا وهي ليست مقدسة (أكرر: التفاسير القرآنية مهما بلغت فائدتها وقيمة أصحابها ليست مقدسة وإنما يجوز فيها الخطأ والصواب) فما هي إلا قراءات للنص الديني محكومة بزمانها ومكانها، وأن الخير كل الخير أن نعود للقرآن نقرؤه ونتدبره كل حسب مستواه فلم ينزل القرآن لطبقة واحدة من الناس وإنما نزل للناس كافة غنيهم وفقيرهم، عالمهم وجاهلهم، بل مؤمنهم وكافرهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظام البطاقات البحثية بالصور

شرح منظومة تفصيل عقد الدرر في الطرق العشر لنافع - لشيخنا الجليل محمد السحابي (7)

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.