أنا هنا...جيفة عفنة..!

أكتب هذا النص على نظام ubuntu9.10 ببرنامج openoffice-word ﻻ أدري كيف سيظهر في المتصفح،
1- نمت كجيفة عفنة. رأيت جدتي التي ماتت قبل عشر سنوات، وعمتي التي ما زالت على قيد الحياة وبينهما نهر عظيم جارٍ، يترقرق ماؤه عذبا طريا كأنه زجاج ذائب. استفقت من نومي في الثانية صباحا، كانت الريح تعصف بقوة ويسمع صوتها على جنبات النوافذ، الأشجار تئن طربا كأنها تلد. لم أجد شيئا أفعله. فتحت قناة الجزيرة. مازالت غزة تئن. للأنين صوت أسد هزيل اعتزل ليموت وحيدا بشرف. سماء غزة مظلمة. شوارع غزة مقبرة لتجارب عقل فقد كل قيم الحياة، عقل متوحش تعرى أمام نفسه في المرآة. فشل إنساني فظيع. نفاق سياسي بغيض. لم يعد أحد يثق منذ اليوم في عقل متوحش فقد مشروعية وجوده. انتحر العقل والإنسان في مزبلة الحرب.

[ لن نفتح المعابر حتى لا نعطي الإسرائيليين فرصة تقسيم فلسطين بين الضفة والقطاع. لن نخرق معاهدة 2005.]

(قصاصة من يومية عربية وجدتها عند بائع كران في وجدة)

يظنون أننا سنصدقهم، يظنون أنهم يتحدثون إلى شعب مغفل لا عقل له!

2- هم يعرفون أننا نصدقهم، لأنهم صنعونا على مقاس أحذيتهم وعلى استدارة رابطات أعناقهم. نحن نعرف أنهم يكذبون ومع ذلك نصدقهم. إنها معادلة لا يمكن أن يفهمها عاقل. الفلسطينيون، هؤلاء الرجال قد فضحونا، قد عرونا تماما. كشفوا نفاقنا وتخاذلنا. بأي وجه ننظر إلى أطفالنا ونسائنا، مرغوا وجوهنا في التراب قبل أن يمرغوا أنوف الصهاينة في خراء الخنازير. هؤلاء الأبطال كتبوا التاريخ بدلا عنا نحن "القاعدون المتحصنون" خلف نفاقنا. تذكرت قاعدة الاختصاص في النحو العربي القديم، وكيف يحرص عليها هؤلاء الأعراب المخنثون أكثر مما يحرصون على شرف أمهاتهم وبناتهم، يتشدقون بها ملء أفواههم ليعلم المستمع أنهم أكثر الناس صونا لفروع اللغة وأصولها، قلتُ: تزدهر البلاغة حينما تموت المواقف، تماما مثلما نقدم باقة من الورد أثناء عيادة المريض.

3- بقيت في فراشي ما يزيد على نصف ساعة أحدق في السقف، كان هناك نهر يجري بين خطوط الجبس المتعرجة كثعبان أملس، الصراصير تسبح في النهر بزعانف كأنها أشرعة سفن قديمة. تتناسل الصراصير بسرعة جنونية. تنقسم كالخلايا السرطانية محدثة جلبة ما يزال طنينها في أذنيَّ. الناس يبتلعون الصراصير بلذة عارمة. كانت جدتي تحاول أن تتجاوز النهر، تجاوزته بسرعة وكانت الصراصير ما تزال تلاحقها، كلما اقتربَتْ منها تناسلت أكثر. أحسست بيدٍ تمتد نحوي، سوداءُ يُغطيها زغبٌ قذرٌ، وعلى مرمى البصر ثلجٌ كأنه عِهنٌ غير منفوش، كان عباس العبد يحاول أن يصل إلى المكان، المكان يظهر ويختفي، أصبحتُ أنا هو المكان الوحيد في هذه الصحراء الممتدة بلا رحمة. كان صوت عباس يأتي متقطعا بينما كانت جدتي تواصل المسير إلى شجرة أو شيء كالشجرة معلق في الفراغ، لعلها "خروبة" كبيرة أو "صفصافة" صغيرة، كانت الصراصير تحوم حولها، محدثة موسيقى باردة.

4- استفقت على وقع أقدام عباس يخبرني بضرورة التحرك سريعا، ربما كان في نيته أن يتابع دعوته إلى القبائل التي لم يصلها أحد من قبل.

- استعد يا سيد «س» سنغادر بعد القصف الأول.

لم أكلف نفسي أن أرد، ولا حتى مجرد التساؤل عن الوجهة الجديدة التي سنسلكها، من عادة الأنبياء ألا يُسألوا عما يخططون له، ومن عادة المؤمنين ألا يَسألوا عن أشياء إن تُبدَ لهم تسؤهم. الامتثال المطلق إيمان مطلق. المواطنة الكاملة هي الامتثال الكامل. لقد نسي عباس حتى اسمي، أنا بالنسبة له لست سوى صوت لا أصل له، مجرد حرف جبان لا معنى له. تذكرت لوحة مذهبة مرصعة بحروف متطايرة كأنها نحل شارد، عُلقت بإحكام في صالة الانتظار عند طبيب الأسنان. للحرف هناك قيمة جمالية تضاهي الإعجاز، أما أنا فلا معنى لاسمي. "استعد يا سيد « س »"، لقد سماني أبي سردالا، وسماني هو "س" لقد كان لاسمي معنى مع الأشياء، أما الآن فقد أصبحت الأشياء أكثر عمقا مني، ليتني كنت فنجان قهوة أو حتى [فِ]رْيَة (1) في جوف تاريخ عظيم، أنا الآن لا شيء، مجرد صوت بلا روح ولا معنى. الأشياءُ، تلك الموجودات المستفزة الهامدة تصنع حضارتنا المعاصرة، تؤثث نفوسنا الموحلة، الموغلة في تاريخ الفوضى. الأشياء الصغيرة تحكم العالم الكبير. لكن، قلت في نفسي: من أين تستمد الأشياء الصغيرة سلطتها؟ وهؤلاء الذين سيلتقي بهم عباس، وهو يراهن على أنهم سيذعنون لمشيئته، أي سلطة تقودهم ليسلموا له أرواحهم وقلوبهم المفعمة بالفوضى؟ إنها سلطة الأشياء الصغيرة، الأشياء التي تحيط عوالمنا الداخلية بضوضائها التي لا تنتهي، والتي تفصلنا عن جوهرنا، وتحول بيننا وبين الاستماع إلى موسيقى ذواتنا المهجورة، تتحكم في مصائرنا كأنها قَدَرٌ جديد يسلبنا الإرادة.

«5- لحظة أولى:

المكان: مقهى لوازيس بوجدة.

الزمان: الأحد 08/02/2009، الساعة 11و 31 دقيقة صباحا.

الإيقاع: تماهٍ بين كأس أبيض هو خلاصة ما وصلت إليه الحضارات القديمة، ومجموعة من ثلاث كتب وجريدة يوم الجمعة الفائت. الكأس يحتضن القهوة بحنان أموميٍّ، وبين الكتب الثلاث تيارات جارفة متبادلة من العشق السماوي، وإيقاع موسيقي يخترق حجب التاريخ المظلم وأسيجة المستقبل المرعب.

رَنَّ أحدُ الهواتف النَّقالة، رن بصوت منكرٍ مزعج، وقف الناس جميعا يتحسسون جيوبهم، ومناطق أخرى من أجسادهم، كل واحد منهم يظن أن هاتفه الخلويَّ هو الذي يرن في جيبه. ما أحدثه الهاتف النقال لا يمكن أن يحدثه صوت المؤذن ينادي الناس لبلوغ السماء.

قلتُ: لو أن "فرقعة" مدوية خرجت من تحت سروال أحدهم، هل كانوا يتفقدون مؤخراتهم بحثا عن مصدر الفرقعة؟ لا شك أنهم لن يقفوا، لأن كل واحد منهم يعتقد في أعماق نفسه أنه أطهر الناس جميعا، وأن الآخرين هم أكثر قذارة.»

«6- لحظة ثانية:

الزمان: 13/09/1999، العاشرة و سبع دقائق مساءً.

المكان: أحد فنادق إنزكان قرب محطة الحافلات.

الإيقاع: أشجار الشارع الكبير تلعن ضجيج السيارات، تسعلُ بعمق فتتأرجح ذات اليمين وذات اليسار محدثة تيارا ت من الدخان المتصاعد من مواقد الشواء حول المطاعم المنتشرة بلا معنى.

في نقطة تجمع الطرق، على مقربة من الفندق، أمام لوحة إشهارية كبيرة تعلن عن منتج جديد من الهواتف النقالة، جلس أحد المتسولين ليفرغ ما بجسده من سوائل النهار، وما جمعه في بطنه من رواسب المتصدقين.

قلت: أيهما أكثر وعيا وأعظم إدراكا لجواهر الأشياء، المجانين أم أولئك الذين يدَّعون التعقل أمام الأشياء؟ أليس ما فعله هذا المتسول هو خلاصة تجارب الإنسانية كلها منذ أن بدأ الإنسان في التفكير، كل أشكال التعقل الرصينة لا بد أن توصلنا إلى هذا الموقف العميق الذي صدر من هذا الرجل. لقد فعل ما لم نستطع نحن أن نفعله، لقد جعلني أشعر بالخجل أمام تعقلي الأحمق.»

«7- لحظة ثالثة:

الإيقاع: الأشياء المحيطة بالإنسان والحيوان تكاد تنصهر من الحر، الأدمغة تغلي ورائحة الزفت تتصاعد من الطريق المشققة، التي كأنها لسان كلب مسعور، الطيور هجرت السماء، ليس هناك نسمة هواء واحدة. تحس أن وجوه البشر ليست سوى قطع فحم بللها المطر.

الزمان: الجمعة 13/06/1986. بين الثانية والثالثة مساءً.

المكان: أمام بوابة ثكنة القوات المساعدة، في طريق ملعب الكرة المستطيلة بوجدة.

تركني أبي هناك أستظل تحت الشجرة الكبيرة التي غرسها المستعمر الفرنسي مشكورا، بعد لحظات خرج أحد الأطفال من الثكنة على دراجة هوائية ثلاثية العجلات، زرقاء اللون مع حمرة بادية في الخلف، حاول الطفل أن ينزل بدراجته الرصيف الصخري. سقط الطفل من الدراجة على وجهه. جُرح الطفل جرحا صغيرا على خده. اجتمع رجال القوات المساعدة، بعضهم يمسح وجه الطفل. وبعضهم ذهب مسرعا لجلب بعض الضمادات.

أما رجل آخر فجاء مسرعا نحوي، وكنت ما أزال أنتظر عودة أبي تحت الشجرة الكبيرة التي لم نغرسها نحن، صفعني الرجل صفعة شديدة على خدي، وأدخلني الثكنة العسكرية. وسمعته يقول لأحدهم هذا هو الكلب ابن الزانية الذي دفع الطفل فسقط. ولما أكد له حارس الباب أنني بريء من إسقاط الطفل. قال لي يا ابن الزانية صفعتك حتى تصبح رجلا!

قلت:تأكدت منذ تلك اللحظة وأنا طفل صغير، أنه لم يصنع مني رجلا، وإنما صنع مني وحشاً، وأقسمت حينها أنه لو أتيحت لي فرصة قتله ما ترددت لحظة واحدة. لما سمعت بوفاته الطبيعية حمدت الله وغفرتُ له إكراما لذلك الرجل الذي شهد ببراءتي.»

«8- لحظة رابعة:

الإيقاع: الناس مثل الحجر لولا أنهم يتكلمون، يشكلون مع ساحة السوق الكبير إطارا لسخافات لا تنتهي. النساء ملثمات من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، لا ترى منهن سوى حركات الرأس وعين واحدة سوداء تتحرك ذات اليمين وذات الشمال، تتراقص تحت اللثام كأنها جانٌّ، يتكئن إلى جدار المستوصف الذي يشبه معتقلا للخوف، مباشرة أمام واجهة مربط الحمير والبغال.

المكان: السوق الأسبوعي في قرية عين الصفاء 34 كلم غرب مدينة وجدة.

الزمان: صباح يوم سبت في شهر رمضان عام 1978.

كان عمره لا يزيد عن ست سنوات، اصطحبته جدته إلى السوق، وكانت الأخبار قد تسربت إلى القرية بأن هناك من يختطف الأطفال، ترسخ في ذهنه أن هناك من يسرق الأطفال، وبما أنه طفل فإن المسألة تعنيه. في الرحبة المخصصة لبيع اللوز، ناداه رجل كَرِشٌ واختاره من بين جميع المارين، أن يتذوق له نوعين من اللوز، لعل الرجل كان يريد التمييز بين اللوز المر واللوز الحلو، تذكر الطفل ذو الست سنوات قصص خطف الأطفال التي كانت تتردد في القرية، نظر من حوله فرأى الرجل الكرش ما يزال مصرا على طلبه، تفرس في الوجوه حواليه: لابد أن يكون كل هؤلاء لصوص أطفال، انتفض من يد جدته وهرب مسرعا باكيا يختبئ بين الناس في السوق الكبير أمام دهشة الجميع، الناس يلاحقونه ليعرفوا ما أصابه وهو يجري وينادي: اللصوص اللصوص، أنقذوني أنقذوني.

قلتُ: لقد تعلمت الدهشة ممزوجة بخوف أسطوري من الوجود: الدهشة أمام الأشياء والمواقف هي بداية التعلم المباشر، والخوف هو صمام الأمان لكي لا تقع الذات المندهشة في الخطأ. لقد أدركت في ما بعد أن الدهشة هي التي دفعت سردالا ليؤمن بنبوءة عباس تماما مثلما كانت الدهشة سببا في احترامي لعبد السلام، ولكن مع ذالك أعترف أنني لم أستطع إلى الآن أن أفهم الآلية التي تتم بها هذه العملية السحرية الرائعة: أي كيف يمكن للدهشة أمام الأشياء أن تعطيك قوة لتفسير عوالم لا تدرك بالحواس المباشرة. الدهشة قادتني مرة أخرى إلى اكتشاف عظيم ينصهر فيه الزمان والمكان، في لحظة إيقاعية جديرة بالتأمل، عندئذ أدركت أنني قد خسرتُ ذاتي إلى الأبد. »

«9- لحظة خامسة:

المكان: في غرفة مكتبي، الآي ماك (iMac) مفتوح على النسخة السابعة من هذه الرواية. (حتى لم أعد أعرف الناسخ من المنسوخ.)

الإيقاع: الأشياء الصغيرة تحيط بي من كل جانب، تغمرني إيقاعاتها البطيئة بلحظات من الأسى. العمر الافتراضي لهذه الأشياء الصغيرة - بكل المقاييس- أكثر من عمري. أكاد أقبض على هذه اللحظات بأصابعي. أكاد أخنقها بزفراتي. إنها لحظات تتطاير شراراتها في الغرفة على غير نظام، تخرج من الغرفة إلى العالم الخارجي دون أثر للرجوع. تتصرم من بين أناملي باستخفاف ظاهر كأنها تتحكم في رقاب البشر. أي نوع من البشر نحن؟ إنني أراها ترسم دوائر متداخلة على سقف الغرفة. ثم تغادر.

الزمان: الأربعاء 11/02/2009

"أم كلثوم تغني" "سلوا قلبي" وأنا أحاول أن أقبض على هذه اللحظات المتطايرة في الغرفة. كلما حاولت أن أصف لحظة من اللحظات، أصبحَتْ جزءا من الماضي. الماضي بئر عميق. مقبرة للحظات المنتشرة بلا نظام في سجل لا أبعاد له. لا فرق بين التاريخ والمقبرة: التاريخ هو مزبلة اللحظات الزمنية، والمقبرة هي مزبلة المادة المتحللة. ومن الغريب أن يعيش الإنسان بين مزبلتين مرفوع الرأس بلا خجل أو حياء...»

قلتُ: لهذا السبب يحاول العقل أن يخدعنا. لا يجسد تاريخ الفكر إلا سلبيات العقل وقصوره، ولم يكن العقل في يوم من الأيام حارسا أمينا للمعرفة الإنسانية، وكلما ازداد اعتقادي في أهمية العقل كلما ازدادت شكوكي حول القيم نفسها، الإنسان الشعبي أكثر سعادة من المفكر، يا إلهي! كلما ازددت تعقلا في إدراك الأشياء كلما ازدادت تعاستي، فأين العقل المرح ؟

وقلتُ أيضا: تلك العصافير تدغدغ مؤخرة رأسي، قليل من النمل في أخمص قدمي اليمنى، لا تتبين عيني اليمنى ما تراه عيني اليسرى، الكثير من الهذيان يسبب لي الملل، لكنني أتبين بوضوح أضواء المدينة بعيدة كشموع تحترق، من يدري ربما ينتهي العقل أخيرا بانتهاء المدينة.

«10- لحظة سادسة:

الزمان: اليوم السابع والثلاثون من شهر حُزَعْبِقالْ، يومان بعد الموجة الأولى.

الإيقاع: الناس يسيرون بحركات غريبة، كل شيء يبدو أمامي معكوسا، سيارات الأجرة الطويلة جدا، تسير بلا عجلات إلى الخلف على مقربة من أرض سوداء عليها أثر حريق قريب، الناس يعبرون الطرق بالمقلوب، كلما أردتُ أن أقترب من أحدهم أحسُّ أنه يبتعدُ عني بمسافة. لا تصدر من الأشجار أية موسيقى. لم أعد أسمع موسيقى الأشجار، ولم أعد أشتم رائحة الصوت. أرى شفاها تتحرك. نساء عاريات تماما لكن لا عورة لهن، ورجال كساهم الشعر الأسود العنيف كأنهم قرود بشرية.

المكان: في مكان ما يشبه "وجدة". لم أعد أتذكر التفاصيل. لكنني متأكد أن المكان هو وجدة، والدليل هو أن ساعة البلدية، والصومعة الطويلة الممتدة، لم يبرحا مكانهما، مع فارق بسيط هو أن ساعة البلدية قد استحالت إلى سطل ماء كبير، كأنه حوض سَقْيٍ أو شيءٌ يُشْبِهُ قبعة كبيرة من خشب. كتب تحتها بخط عريض: "إننا نعيش كالآلهة ونموت كالبهائم".

لم أتعرف على أحد ممن كنت أعرفهم، لكن عباسا كان يمسك بجريدة تتطاير منها الحروف، كأنها سرب نحل جامح، يحاول عباس أن يُثَبِّتَ الحروف الهاربة على الصفحة بِريقِ لسانه، وهي نفس الحركة التي كنت أراها في مصلحة البريد عندما أكلف نفسي بإرسال مقالاتي إلى كبرى المجلات العربية ولا ينشرها أحد، لكن كلما ثَبَّت عباس حرفا انسَلَّتْ من تحت أصابعه حروف أخرى. تتناسل الحروف كخلية سرطانية. ترفسها الأرجل في الممرات الضيقة. أسمع حسيسها كأنه حشرجة هواء يُحْتضَرُ. عباس يجري وراء الحروف يطاردها. يتوسل إلى المارة أن يساعدوه على التقاطها، تمر أمام أنوفهم لكنهم لا يرونها. تستقر في رئاتهم لكنهم لا يحسون بدبيبها. تخدش ما بين صماخ آذانهم لكنهم لا يسمعون موسيقاها.

قُلْتُ: آلهةٌ في الصَّباحِ، بَهائِمُ في الليلِ، لم يعد باستطاعتنا أن نسيطر على ذَواتنا. الإنسانُ، ذلك المقدسُ يندثر من الوجود بسرعة جنونية. يتلاشى أمام أعيننا دون أن نعيَ مصيره المحتوم، تتناسل مخلوقات جديدة غريبة تشبه جسدَ إنسان. لها صوت إنسان، حركة إنسان ، لون إنسان ، لكن وسْط هذه الدوامة التي لا تنتهي يغيب الإنسان ويبقى الصوت والحركة واللون.»

هل يمكن لهذه المخلوقات أن تفهم نبوءتي؟ تساءل عباس في شك يشبه اليقين وانزوى إلى ركن مغبر في طرف الشارع الكبير، تحت الساعة التي كأنها سطل ماء، وكانت الحروف ما تزال تنط من الجريدة مبتعدة في دوائر نحو الأعلى. أما عباس فكان يتابعها بابتسامة علمية اخترقت حدود المكان.

11-كنت ما أزال منهمكا في قراءاتي حول طرق تجارة التوابل في الصين القديمة، وفي الوقت نفسه برمَجتُ كتابين جديدين أقرأ منهما كل مساء بعد المغرب، وكان قصدي أن أجد عباسا في إحدى هذه الطرق الكثيرة الموغلة في الذاكرة، وبينما كنت أتلمس طريقا للمعرفة، وجدت نفسي وجها لوجه مع بعض الأشياء التي تركها عباس في إحدى الذاكرات القديمة الصدئة، وقد يكون غيَّرَها بعد تلف أصابها، قضيت وقتا طويلا أرمم بعض الأحداث من ذاكرة عباس حتى أحسست بدماغي يسيل من أذنيَّ، وما أثارني حقا هو أن الأحداث نفسها إذا رُممت تحولت إلى شيء آخر مختلف، عند ذاك تذكرت أنني بصدد كتابة رواية، وأن دماغي يحتاج إلى الكثير من الرائحة.

أخذت حماما ساخنا مدة نصف ساعة، ارتديتُ ملابسي. حلقت ذقني حتى أصبح وجهي أبلقَ براقا. مشطت شعري جيدا على غير عادتي، ارتديت بعد ذلك قميصا أسودَ تعتليه خطوط عمودية بيضاء. أحكمْت وضع رابطة عنق سوداء منمقة بورود صغيرة حمراء، أهدتها لي أمي بمناسبة حصولي على درجة الدكتوراه (2).

- أين أنت ذاهب يا أبي؟ سألني أيوب مندهشا.

- سأنام. قلتُ.

نظر إلي ابني وقد زالت الدهشة قائلا:

- لا تنس يا أبي أن تلبس حذاءكَ! قالها بصوت واثق رخيم. فتأكد لي أن أيوب هو من سيخلفني على عرش التفلسف المرح.

لم أعد قادرا على تطوير هذه الرواية، الشخصيات الرئيسية التي عجنتها بيديَّ تتمرد عليَّ، أصبحت تتحكم في مصيري، توجهني إلى مسارات متعرجة ما كنت أريد أن أقترب منها، يا إلهي من يكتبُ الآخرَ؟ من يخطط على الورق ويقضي الساعات يرسم الوجوه والهمسات والعيون؟ إنني أشعر برعب حقيقي لا يمكنني تصوره إزاء الكتابة اللعينة، أصبحت تمتلكني، تسجنني في أحشائها، الحروف المتطايرة أمام عيني تحجب عني رؤية الأفق القريب. أنني أذوب في عشقها الأبدي، ولكنها تتخذ مسوح الرهبان لتمنع عني أسرارها الملتهبة. الأمكنة والأزمنة سجون أبدية تعمق جرح النفوس التواقة للحرية، لا يمكنك أن تتصور ألم الرعب ممزوجا بالحرية، فَتَحْتَ سقفِ الكتابة وحدها يتعايش الرعب ممزوجا بحُرية وهمية.

الحرية ! أجل الحرية ! في الواقع علينا أن نشكر الجلادين، ونصنع لهم تماثيل ذهبية. فقد علمونا معنى الحرية. ولأننا لا نستطيع أن نرى الأفق بوضوح ترانا نلعنهم في أسرارنا لكننا في أعماقنا ندين لهم بأعز ما فينا: الشعلة التواقة لمعانقة الزهور.

12- قلت في نفسي: الرواية نبوءة بدون تعاليم تطمس هويتها. نبوءة حرة كزهرة تميس في حقول القمح مشبعة بندى الصباح. إنها جمال فطري لم تعد أنوفنا المتخمة برائحة أجسادنا تستطيع أن تتذوقه.

لم أكن أريد أن أملي على شخصياتي ما ينبغي عليها أن تقوم به رغم أنني كنت أعلم علم اليقين أنها تتمرد عليَّ. كنت أريدها أن تكون حرة تقهر إرادتي، لكنها حسنا فَعَلَتْ حينما اضطرتني إلى أن أعيد مخططاتي.


----------------------------------

1 - في النسخة الأصلية : ...رْيَةٍ، الحرف الأول في حالة شرود ذهني، وقد اجتهدت في طلب المراد، فقلت: لعله يقصد فِرية بمعنى كذبة أو قرية ولا أخفي على القارئ الكريم أنني رجحت أول الأمر خَرية، لكنني عدلت عنها لأنه لا يجوز للروائي ما يجوز للشاعر كما يجوز للفقيه ما لا يجوز لغيره.

2 - بلغني من مصدر موثوق أن عباسا لما أخذ درجة الدكتوراه تقدم منه أحد الأساتذة فسأله عن مشاريعه العلمية المستقبلية. فكان جوابه أن أهم مشروع يفكر فيه هو أن يعرض نفسه على طبيب نفسي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظام البطاقات البحثية بالصور

شرح منظومة تفصيل عقد الدرر في الطرق العشر لنافع - لشيخنا الجليل محمد السحابي (7)

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.