[...] تعيش الإنسانية اليوم - أكثر من أي وقت
مضى- حالة من الفوضى الكونية، والمسخ الحضاري والقيمي إلى الدرجة التي يحار فيها اللبيب
وتقشعر لها أجداث الموتى قبل الأحياء، حروب طاحنة مباشرة أو عن طريق الوكالة، تشتت
العالم عوض دعوات الانسجام والتسامح والحوار، فقد صرف العالم أموالا ضخمة وثروات هائلة
من أجل نشر قيم التواصل والحرية والانفتاح وغيرها من المفاهيم التي جردت من معانيها،
لكن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم هو عكس ما تدعو إليه المنابر الفكرية والثقافية،
بل عكس ما تذهب إليه الفطرة الإنسانية الميالة إلى التعايش الكوني والنزوع نحو معرفة
ما عند الآخر من تجارب إنسانية [...] فهل هناك قوى خفية -عندنا أو عندهم- تدفع نحو
الفوضى الخلاقة وسحق الطموح البشري في الوصول إلى حالة من الاحترام المتبادل بين الأمم
والشعوب ؟ وإذا افترضنا أن هذه القوى الخفية موجودة بالفعل، ما حجمها و ما الغاية التي
تسعى إلى تحقيقها؟ وهل لهذه الممارسات التي نشهدها اليوم في عالمنا لها امتدادات تاريخية
حضارية تغذيها وتشهد على مشروعيتها واستمرارها ؟ [...]
يحاول هذا الكتاب - في عشر مقالات متكاملة- أن يتتبع هذه الأسس
التاريخية والدينية والحضارية التي يمكن اعتبارها مرجعا أساسا للتحولات التي عرفها
الفكر الحديث الذي نتج عنه ما نلاحظه اليوم من انفلات وتشظي معرفي وقيمي وسلوكي
أدى في نهاية المطاف إلى ثغرات في طريقة معالجة الخلاف والاختلاف والحوار
واللاحوار غير المتكافىء، بل المستحيل سواء على المستوى الأفقي أو العمودي، والذي
يؤدي تأجيله إلى مزيد من الحروب الطاحنة والتقسيمات الفظيعة، وهذه الحالة من
الانفلات الموجه والمقصود، بل المخطط له مسبقا، يهدف إلى إشاعة الفوضى وما ينتج
عنها من استغلال للإنسانية كلها [...]
