الأربعاء، 25 مايو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 2- يتبع.

الجزء الأول من هنا:
2- أعطتني تدوينة لأحد أصدقائي المصريين دفعة جديدة للاستمرار في الكتابة، فقد نسيت مشكلة ثغرة الزمن مع سردال، وتعرفت إلى شخصية جديدة بالصدفة هي عباس العبد، تحدث عباس عن كتاب ألفه موسى بن ميمون حول البواسير وعلاجها، لا شك أن أحد الأيوبيين في زمنه كان مريضا بالبواسير، ولاشك أن ابن ميمون كان يلعب كما يلعب إخوانه الآن بالمؤخرات العربية.

في هذه اللحظة كان سردال ما يزال يبحث عن حل لمشكلته، فكر في مراجعة جميع الأكواد البرمجية التي تسمح له بتجاوز المشكلة،فجأة بدأت الكلمات تهرب من أمامه، وجد سردال نفسه مع عباس العبد يحتطبان، عباس الآن يحمل سيفا، سردال ينظر إليه . عباس يدعوه للمبارزة.

رجعت إلى سيرة سردال أبحث فيها علني أجد ما يعطي مصداقية لهذا العبث الروائي، لم أجد شيئا. وبما أنني منذ البداية كنت أتمرن على كتابة رواية، لم أعر تطور الحدث أية أهمية. على كل حال إن كلمة سردال هي جزء من اختصاصي الذي أتقنه، فبقليل من الذكاء تحيل كلمة سردال إلى السرد المقلوب، وهي حالة ظلت تلازمني طوال الليلة الماضية.

ترك عباس العبد قبيلته حاملا غيظه معه إلى هذا المكان المجهول، كان كل ما فيه من أمارات الحنق والحزن تنبئ أن وراءه تاريخ عظيم من الفوضى، ولكن الفوضى نفسها لذيذة لو كانت منظمة مرتبة، قلت في نفسي: ما أحلى الفوضى المنظمة، هناك ندوب عميقة رسبتها سنون من الهيبة والوقار، وعزة الغزوات في الصحراء.

تخيل عباس العبد نفسه بين جواريه. سقط السيف من يده. تذكر لحظته ووقوفه أمام سردال. رفع السيف وأحكم قبضته. لا يمكن أن تكون مسيرة الإنسان والتاريخ كله بين قبضة سيف ونهد امرأة. فكر عباس وسب نفسه في نفسه.

لم يكن سردال خائفا، ولكنه كان بادي التوتر، حاول سردال أن يتكلم، لكن اللغة أيضا اختفت. بحث سردال عن لسانه. تحسسه. لمسه بيده. اللسان في مكانه واللغة غائبة. لم يدرك سردال أن اللغة نفسها ترتبط بالزمن. لا لغة خارج الزمن، هناك شكل واحد ممكن: أن تتحدث إلى نفسك. تستمع إلى حديقة ذاتك. لا يهم أن يفهمك الآخرون،ليس باستطاعتك أن تجعل حديقتك الخاصة مشاعا للعموم.

حاول سردال أن ينفذ إلى برنامج الزمن، ويقوم بتحديث السطر الثالث عشر، لم يكن الوقت كافيا للقيام بهذا العمل المجنون، يجهد نفسه في تذكر كيفية عمل نظام الزمن، يستظهر في نفسه الكثير من الأوامر والمتغيرات، لن ينفع هنا لا (C++) ولا أوامر (Shell)، خطأ إضافي يمكن أن يجعل الأمر أكثر تعقيدا. يخشى سردال أن يجد نفسه هذه المرة في ضيافة أسد جائع في أطراف الصحراء، أو يكتشف ثغرة أخرى تجعل من بن لادن مرشحا للانتخابات الأمريكية، بقليل من التفكير يمكن أن تحدث هذه الأشياء. العقول تنتقل عبر الزمن بسرعة كورم خبيث. تمتم سردال. عالم مجنون، عالم لا يفصله عن الهاوية إلا جدار شفاف من الحمق.

يقرر سردال أن يخاطر. يرسل سردال بعض الأوامر البرمجية عبر طاقته الإيحائية إلى حاسوبه. عباس يقترب منه أكثر. عباس يشهر سيفه أكثر. عباس مصِرٌّ على المبارزة.

خطر لسردال فكرة ربما تغير الأمر كله: عباس رجل فر من مكانه، وسردال رجل فر من زمنه، منطقيا – فكر سردال – لا يمكن أن نحل مشكلة الزمن بمشكلة المكان، آه لو كان بمقدوري أن أنفذ إلى عقل المكان، بدل أن أبحث في ذاكرتي المتعبة عن الأوامر الضرورية لتغيير برنامج الزمن، على الأقل كنت أستطيع أن أشل حركة يده أو أبعد عنه السيف قليلا، أو ألقي به في أحضان جواريه اللواتي يسيل لعاب المرء بمجرد تذكر طلعتهن البهية.

تذكرت كلب عمتي في البادية. لعابه يسيل بمجرد أن يرى قطع اللحم. بعضنا يموت بمجرد أن يشم رائحته.

لم يكن في استطاعتي أن أجاري سردال. تركته لمصيره مع عباس العبد. أغلقت مذكرتي الخضراء. أحكمت إغلاقها. أكره أن يقرأ غيري ما أكتب. قصدت مقهى "لوازيس". وضع سعيد أمامي على الطاولة المستديرة ما تعود أن يضع. لم تكن هناك ورود حمراء. لم تكن هناك أية سكين. قناة الحيوانات تعرض شريطا وثائقيا حول الأسود وصراع البقاء. تذكرت سردال. لا بد أنه الآن في ضيافة الأسد الجائع. لا أريد أن أعرف، قلت في نفسي. الناس في المقهى يدخنون. على القناة غابة تحترق. الناس في المقهى يسعلون. السماء في القناة تبول. نظرت إلى هاتفي المحمول، Google يذكرني بموعد مهم. أغلقت هاتفي. لا أريد أن يذكرني أحد. دخل بعض الأساتذة إلى المقهى. خرجت. تذكرت جارنا الصباغ. لابد أن يكون سردال قد وجد حلا. هل يعقل أن يستفيق الرجل من نومه ليجد نفسه في صحراء مقفرة مع عباس العبد.

عينا عباس تترقرقان كالبحر المزبد. أجفانه تنقبض وتسترخي. شعر شاربه يتمدد. عباس يعض على شفته السفلى، يتقدم أكثر وأكثر من سردال، الأرض تحت سردال مبللة بالماء.

- لعنة الله على البرمجة والتكنولوجيا، يقول سردال في نفسه!

- لعنة الله على القبيلة. يقول عباس في نفسه!

- قبل عصر البترول كنا نعيش في سلام أكثر، كنا راضين بشعر الصحراء ومضارب الخيام. نعشق بعمق. الآن تغير كل شيء. يقول سردال.

ينظر تحت قدميه. لقد فعلتها. ينظر إلى عباس. هذا الأحمق ينوي على الشر، ما أسهل أن يقترف الرجل الشر. يمني سردال نفسه بالهرب، عباس يقترب أكثر، يضع السيف على رقبة سردال.

يكتشف سردال أن وضع السيف على الرقبة ليس سوى تقليد قديم للترحيب بالضيف الجديد.

إن بعض الظن إثم. همس سردال. هل من الضروري أن يبلل الرجل سرواله من أجل أن يفهم أن الآخر لا يريد به الشر. وأن رقصة السيف التي قدمها عباس ما هي إلا طقس لتقديم الورود على الطريقة العربية.

أيعقل هذا ؟ يقول سردال. لا بد أن يكون برنامج الزمن قد تغير، لا بد أن عباسا كان يريد بي سوءا. لا يمكن للرجل أن يتغير بهذا الشكل إلا أن يكون رأسه رأس أفعى. لابد أن يكون قد حصل شيء ما في برنامج الزمن، كنت أرى ذُراقا في عينيه، وشررا يتطاير من شدقيه، لابد أنه كان ينوي شرا.

لم يشأ سردال أن يسأل عباسا عما يفعله في هذا الخلاء القفر، ولكن علامات الذهول بادية على كليهما، لا يريد سردال أن يستفز عباسا حتى يتأكد من حقيقة نيته، ربما كلمة واحدة طائشة تشحذ السيف مرة أخرى فيسقط المطر. اقتربا قليلا من شجرة هرمة.لابد أنك هنا تبحث عني كما كنت أبحث عنك، بادره عباس.

هذه مقدمة رائعة، يفكر سردال، لا أذكر أنني عرفتك قبل اليوم، ولم يسبق لي شرف لقائك. يؤكد سردال.

نظر عباس إلى سردال مليا، تفحص عينيه. نظر إلى أخمص قدميه، لابد أن تكون أحد حواريَّ. لا يمكن أن تكون هنا إلا لأنك أحد حواريَّ. فلا تخذلني مثلما خذلوني ولك الخلود.

كان عباس يريد أن يسترسل في الكلام، سحابة من التأمل تغشى عينيه، لا بد أن يكون هذا الوهج من أثر صدمة عابرة بالمكان.

رجعت إلى مقهى لوازيس، أمطار خفيفة بدأت ترش نوافذ المقهى، كان مراسل الجزيرة يقدم تقريرا عن اجتماعات الجامعة العربية. تمنيت من أعماقي لو انقطع التيار الكهربائي. انقطع التيار الكهربائي. رجع بعد نصف ساعة تقريبا. ازددت شعورا بالوحدة، طبعا ليس الوحدة العربية.

ألقيت بكأس من القهوة في معدتي. خرجت مسرعا لأصل إلى مكتبي قبل أن تجفل السحب المتخمة بالذنوب وأدعية المنابر، لا أريد أن أتبلل.

كان المؤذن في المسجد القريب يرفع أذان المغرب، فكرت أن أصلي المغرب هناك. وبما أنني لا أشك في كوني ما زلت على وضوء. دخلتُ. اتخذت لي مجلسا في الزاوية اليسرى إلى الخلف. كانت أمعائي تتمزق لكثرة ما استهلكت من سوائل. كدت أبول على سروالي لولا أن تغمدني الله برحمته فدخل الإمام. سردال أيضا بال على سرواله لما التقى بعباس لأول مرة.

في الصف الأول، على يمين الإمام، بمحاذاة الجدار، يقف ثلاثة شبان تصلني روائح المسك والكحل منهم. كم أكره رائحة المسك الذي يباع في وجدة ربما يصنع باعتماد الصيغة الكيمائية الخاصة بخراء الحمير، لا أدري، أحد هؤلاء الشباب كان يرمقني من حين لآخر، هل يعرفني؟ قلت في نفسي. شخصيا لم يسبق لي أن التقيت بشخص من أفغانستان أو باكستان في المغرب. هذا النوع من المخلوقات لا يحب أن يُلوَّث المسجد بسراويل "جينز"، وأنا أرتدي واحدا. يبدو لباسهم نشازا في المسجد، لكن من حقهم أن يلبسوا ما يريدون، قلت في نفسي، ما داموا لا يؤذونني. على الأقل هم يعتبروني مسلما ضعيف الإسلام. كلمة مسلم تكفيني.

وصلت إلى المنزل مباشرة بعد أن صليت المغرب، كانت السماء ترعد مرة أخرى. انقطع الكهرباء نصف ساعة تقريبا فعاد من جديد، ثم عادت معه تقارير عما يسمى بالجامعة العربية. ذهبت لأتبول وفي نيتي أن أعود إلى سردال وعباس العبد.

لم أحبذ الكتابة مباشرة على الكمبيوتر مخافة أن ينقطع الكهرباء فجأة دون سابق إنذار، أخرجت قلمي الذي لازمني منذ دراستي الإعدادية، أسميه العَكَوَّل، اعتدت على ألا أكتب به إلا ما أراه ذا شأن. لا أدري ما سر سحر العكول، فيه براءة طفولتي الأولى. كان الحبر قد تصلب في قناته. حاولت أن أضغط عليه قليلا حتى ينفث بعض المداد الأسود في القناة باتجاه الحوض ثم الرأس، لكن صلابة المداد وتكدسه على جنبات القناة حال دون وصوله إلى الرأس. لا بد أن أقوم بتنظيفه، وهي مهمة تشبه العبادة بالنسبة لي، أحس فيها بالخشوع، ولو كنت أحس بعشر ما أحسه من خشوع في الصلاة، لكان لي شأن وأي شأن. فككت القلم إلى أجزائه الخمسة وابتدأت بجلفته وسنه أنظفهما بنتفة من القطن وقليل من الكحول المركز، أزيل عنهما ما ترسب من سواد العمر حتى أصبحا لامعين. ثم انتقلت بعد ذلك للشّقّ أتحسسه بإبرة ناعمة أسُلُّ بها ما تبقى من طهر الطفولة، حتى إذا انتهيت إلى شباته عالجتها بقطعة من القماش الأبيض النقي، فأصبح القلم شابا وسيما مفتول العضلات، لا يقوى على مجاراته في الكتابة والتدوين عمالقة الصناعة من أهل التحبير.

الاثنين، 23 مايو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.


الفصل الأول :
ينتابني في كثير من صباحات([1]) الصيف القائظة شعور غريب بالدهشة وأنا أرتشف قهوتي الصباحية، وعلى الطاولة سكين بجانب باقة من الورد الأحمر، لقد رتبت هذه الأشياء فوق الطاولة بشكل غير مقصود، ولا مجال فيها لتدخل الذوق، ولا لحسابات المهووسين، ولكن مع ذلك يبدو لي، كما يبدو لزواري، أن هناك تدخلا بشريا يريد أن يفرض معنى لهذه الأشياء، وأن يجعل ثمة توافقا على نسق معد سلفا لمساءلة الطاولة، الواقع أن هذا الصنيع ليس صنيعي، وإنما هي عادة تعلمتها من الأولياء الصالحين، المبجلين بكل القداسة والمحبة السرمدية، ومع أنني بريء وطاهر حتى في اختيار كلماتي القصصية فإن بعض القراء ما يزالون يلحون في طلب جواب مقنع، حسنا، لنرتب المائدة بشكل آخر، الورود الحمراء نستبدلها بورود أخرى صفراء، والسكين نستبدلها بملعقة قديمة متهرئة، والقهوة نستبدلها بكأس حليب دافئ، لنبعد الكرسي قليلا عن المائدة، أو لنكون أكثر تحضرا ولا نبدو لأصحاب الذوق جلفا غلاظا، لنضف كرسيا آخر ونحضر خصرا رقيقا أو وجها جميلا متألقا، هل تبدو هذه الصورة أكثر جمالا، لا شك أن الطاولة لا تتحمل كل هذه العناصر، ومع ذلك سنفترض أن للطاولة قلبا واسعا وباستطاعتها أن تستقبل عددا كبيرا من الضيوف المحترمين، لنضف قليلا من الذباب ([2]) يعبق بالسحر الصيفي، ويعزف نشيد الفرح لبتهوفن، لنلق ببعض بقايا الخبز اليابس على جنبات المائدة وننتظر قدوم النمل وحشرات أخرى لم تتعرف عليها العلوم الطبيعية المعاصرة بعد، هل هذه الصورة هي الأجمل، لنلقي نظرة سريعة من زاوية أخرى على بعد متر من المائدة، توجد غرفة خاصة جدا، ولكنها من النوع العمومي الذي لا يتسع لمسافرَين اثنين في وقت واحد، تزكم روائحها الأنوف الجالسة إلى الطاولة الصباحية، ومع أن هذه الروائح القبيحة والمقززة ـ حسب زواري ـ تبعث على التقيؤ بمجرد الحديث عنها، إلا أنها مع ذلك هي نتيجة عناصر المائدة الخشبية، والمسألة التي تحيرني وتدعوني إلى الدهشة هي أنها لا تتحول إلى قذارة إلا عندما تمر في أمعائنا ، هل تتصور أن مصارينك مصنع لعطر باريسي عندما تستهلك كمية من الورود، أو مصنعا للأجبان الهولندية أو الدانمركية عندما تتناول كأس حليب دافئ.

الآن علينا أن نحاول إلغاء أشكال الدهشة ونعود للمائدة كما هي بالفعل، علينا أن نلغي كل التفاصيل التي تبعث على التقزز، أن نطرد الذباب والنمل، أن نجمع فتات الخبز وننظف المكان من الخيال الجامح، وأن ننسى وجود تلك الغرفة الخاصة جدا، وإن شئت وأردت أن تلتصق بالأولياء فاصرف عنك ذلك الخصر الممشوق التائه في دلال، وعد إلى مائدتك، لا شك أن العالم سيصبح صغيرا جدا، والعلاقات التي تحكمه صغيرة جدا، وسيبدأ ذهنك في تآلف رهيب مع العناصر القليلة المتبقية، لن يتشتت مع الألوان والروائح ولا في عد فرق النمل والذباب ولا في منظر فتات الخبز المسجى على الأرض، سيكون بإمكانك أن ترى لونا واحدا جميلا، لونا أحمر للورود، ولونا أسود للقهوة، ولونا فضيا للسكين، يمكنك أن تضيف إذا شئت جريدة مرموقة ولتكن بالفرنسية ليقال عنك إنك من المثقفين، لا يهم أن تتقن الفرنسية، كل ما يهم أن تزين طاولتك بنسائم الصباح الباريسية.

كانت عيناي ترنو إلى ما وراء المائدة، ليس بوسعي أن أتأمل اللون الأحمر طويلا، فبناء على نصائح الطبيب يمكن للون الأحمر أن يؤثر على جهازي العصبي، ويشل حركتي في اليوم المقبل، ولكن مع ذلك نصحتني التي في البيت أن أعالج مشكلة اللون الأحمر باللون الأحمر، في الأيام الأولى اكتفيت بالورود الحمراء على الطاولة، وفي الأيام المقبلة حاولت أن أجعل حياتي كلها تصبغ بهذا لا اللون، إن مشكلتي مع اللون الأحمر جعلتني أرى الدنيا بشكل مختلف، ليس في وسع المرء أن يكذب نفسه، حاولت أن أصبغ الجدران باللون الأحمر أيضا، وأقف بإجلال أمام اللون الأحمر، وكنت أدعو في نفسي أن يبقى لمدة أطول، أنظر من النافذة إلى السائقين الغاضبين عندما يطول انتظارهم، وأبصق على نفسي، لاشك أنهم حمقى، بعضهم يتمنى لو أن الضوء الأحمر غير موجود أصلا، وكنت أتمنى من أعماقي لو أن الضوء الأحمر تسمر في مكانه لا يبرحه، لقد ازداد حبي لكل ما هو أحمر: الأقلام الحمراء. الرايات الحمر، خراء الحمير، حمّار الشفاه، كنت أطبق نصائح الطبيب بشكل جنوني، حتى أصبحت حياتي كلها كالساحة الحمراء، بركة من أمواج حمراء لا تنتهي، يمكنك أن تشمها على بعد اللون الأحمر.

تدريجيا أصبح سردال لا يميز الألوان، وبما أنه كان في فترة ما من حياته هاوي تصميم فإنه لم يعد يميز الألوان إلا برموزها القياسية، تبدو غابة الألوان كحروف وأرقام لا تنتهي، لا يمكن أن تكون الحياة سوى غابة من الأرقام في سلسلة متراصة تؤذي العين والنفس، هنا تذكرت المائدة الصباحية، لا شك أن الشعراء كانوا يكذبون، فقد كان من الغباء جدا أن يكون فوق المائدة ما يدل على الشعر أو على الحب، بل مجموعات غير محددة من الأرقام والفوضى، رقم يتأمل أرقاما، الأرقام تتزاحم على المائدة كجيش يستعد للمعركة، لا يمكن للذباب أن يكون سوى آلات القتل، ولا يمكن للورود أن تكون سوى دماء القتلى، وحتى لو طلبت من روائي محترف أن يقدم لي حبكة جيدة تدور حول المشهد الذي قدمته فإنه لا يستطيع أن يذهب بخياله أكثر مما ذهب إليه خيالي المريض.

في اليوم التالي رن الهاتف المحمول على الساعة السابعة والنصف، كان يوم جمعة رائعا، ومع أن الجو كان مشمسا وجميلا يدعو للذهاب إلى الحبشة ([3])، كان سردال ما يزال يغط في نومه بعد أن قضى الليلة يبحث في مشكلة ظهرت في بعض الأكواد البرمجية، لأول وهلة بدت الأمور عادية فبرنامج الزمن مستقر، كل شيء على ما يرام، كل شيء مرتب بشكل جيد ورائع، كانت الأسطر البرمجية تتألق كمسارات خضراء في حقل من القمح المشبع بالماء، تتراقص أمامه على الشاشة في تتابع مميت، على الأقل ليس كرتابة المائدة وفتات الخبز وجوقة الذباب، ثم بدأت مسارات القمح تتموج وتخرج عن خطوطها بداية من السطر الثالث عشر، بدأ الزمن في الحقل غير مستقر تماما، فبدلا من أن يتقدم نحو الأمام أصبح يرتد إلى الوراء، لابد أن يكون اليوم يوم جمعة. قال سردال. راجع سردال التقويم على شاشة "لينكس". الجمعة، لابد أن يكون اليوم يوم جمعة، بما أن البارحة هو يوم خميس، لابد أن يكون اليوم هو الجمعة، أجل الجمعة. أكد سردال. هذا ما يقوله المنطق الذي تعلمناه، هذا هو المنطق الذي تقوم عليه حياتنا، نستخلص به أجورنا، ندفن به موتانا.

كانت المائدة ما تزال في مكانها عندما كلمني سردال، لا بد أن يكون التاريخ عندنا في وجدة مستقرا، حاولت أن أشغل ماكنتوشي (الآي ماك) لكن خطوط الكهرباء لم تكن تعمل كعادتها صباح الجمعة... لم أكن أريد أن أعرف شيئا، كنت أريد فقط أن أستمتع بألوان المائدة، ومع أن المعرفة في بعض الأحيان تفرض عليك بنفس المقدار الذي يفرضه عليك الذهاب إلى المرحاض، فقد قررت أن لا أتحدث مع سردال في مشكلة برنامج الزمن. انتظرت حتى الثانية عشر وثلاثين دقيقة، يبدو أن الآذان أيضا لن يرفع، لقد كان الأمر طبيعيا بالنسبة لي بسبب خيوط الكهرباء، توضأت بسرعة جنونية وفي نيتي أن أقصد أقرب مسجد.

كنت أثناء الطريق الطويل غير المعبد منشغلا بالتفكير طوال الوقت بالوردة الحمراء ونظام المائدة، من الأفضل للمرء أن لا يوسع دائرة اهتمامه كثيرا، وردتان أو ثلاث كافية لتعطيه انطباعا أوليا عن البستان، مع ذلك كانت مكالمة سردال ما تزال تضغط على كل تفكيري، هل كان سردال صادقا، هل المكالمة كانت حقيقية أم هي نوبة من نوبات الهلوسة التي تنتابني كل صباح.

أضحى المسجد بعيدا على غير المعتاد، هناك- على اليمين- في الشارع الرابع، لا بد أن يوجد دكان لبيع اللحوم، وبجانبه صيدلية، ودكاكين أخرى تبيع مواد غذائية مختلفة، لا أدري إن كان من الضروري وجود صيدلية بجانب جزار، ولكن هذا كل ما كنت أعرفه من تجربتي المريرة في هذا الشارع الطويل، الآن لم يعد هناك جزار ولا صيدلية، ولكن الوجوه هي الوجوه لم تتغير كثيرا، سوى أنها لا تعيرني أي اهتمام، البقال حسن هنا منذ أكثر من عشر سنين، فر من سوس –والعهدة على راوي الرواة- لكي لا يدفع لطليقته نفقة الأطفال، والحاج بنسعيد ما يزال كما عهدته بسبحته الخشبية التي تعود إلى زمن الولي الصالح عبد القادر الجيلاني، ما يزال لسانه رطبا من ذكر الله، لكن لا أحد الآن يعرفني أو يكلمني.

حاولت أن أعود إلى البيت بأقرب طريق، كان الجو ما يزال لطيفا، قليل من الرياح الشرقية تتراقص على أوراق شجر الزيتون الذي غطى أرصفة الشارع الكبير، تذكرت المؤخرات العربية وهي تتراقص وتهتز كأنها جان، لم أعر المسألة كبير اهتمام، فكثير من الأمور في حياتنا العامة والخاصة تقتل من الضحك، دخلت مكتبي وجلست إلى الآي ماك، ولأول مرة نسيت أنني بصدد التمرن على كتابة رواية، ولأول مرة كدت أن أستسلم وأعلن لقرائي أنني كاتب فاشل يحسن نقد الرواية ولكنه لا يستطيع أن يكتب رواية واحدة !




[1] - وهذا مبتدأ التحقيق الكافي في شرح رواية الكافي لصاحبها العلامة النحرير الدكتور محمد بنسعيد أطال الله في عمره وغفر له من ذنبه. قال العلامة المحقق: اعلم حفظك الله ورعاك، وأتمم عليك من فضله وعافاك، وسخر لك من عميم الفؤاد ما يجعلك بالرواية قمين، وبأسرارها البينات جدير، فإني رأيت أهل العلم في هذا الفن الجليل لا يميزون بين الرواية والغواية، وأكثرهم لِلَطائف هذه الصنعة يجهلون، وعن خباياها ناؤون، حتى عثرت بفضل الله ومنته على هذا المخطوط النادر في أحراش قريتي، في بيت تحت الردم مبلول بالماء والتبنِ، فظننت البيتَ أول ما نظرت مرتعا للوحش والوحيش، لكثرة ما وجدت من روث الحمير والبغال أعزك الله، وقد كانت المخطوطة لا تكاد تبين، لكثرة التقطيع والمزق، فلففتها حِزَقا حِزَقا، واجتهدت في إتمام بياضاتها حتى بلغت السنة في الترميم، فلما اكتملت – والكمال لله- واشتد عودها واستوت سِفْرا، عرضتها على بعض أهل العلم ممن أثق في روايتهم فاستحسنوا باطلها، وأقسموا أن حقها باطل، وأن باطلها حق. ثم إنهم شددوا علي في نشرها بين الناس وحذروني من العوام الذين يقتاتون على أعراض الناس. فعزمتُ وتوكلتُ. واستخرتُ ونفذتُ. فأخرجتها كما هي أقرب إلى الصواب، لم أتدخلْ إلا في مواطن يسيرة، ولم أخض في مراتع الخلاف إلا لضرورة، درءا لمفسدة محتملة، وتقصدا للقربى. وقديما بلغني أنهم قالوا إذا لم تكن قادرا على بلوغ الرجال فتمسح بهم. فإن الرجولة مبعث الكمال. والبَعاد البعاد عن الحثالة فإن لم يصبك وزرهم لم تسلم من ألسنتهم. فتوكلت على الله وقلت:

إن الصباحات جمع مؤنث سالم لمذكر غير عاقل، وإنما تمادينا –نحن اللغويين- في إلصاق صفات الأنوثة بكل ما هو غير عاقل. والتحقيق عندي أن الصباح والصباحين والأَصْباحَ من مقدمات الغَبوقِ. ولقد أخبرني من أثق في روايته أن عباسا كان لا ينام حتى الصباح حتى إذا استفاق من نومه وجد الناس نياما. وقد ظل على هذه الحال زمنا طويلا حتى لم يعد يتذكر شكل الإنسان، فلما قيض الله له رؤية هذا الكائن أصيب بالدهشة والجنون. فكان الناس يتحاشون قربه بسبب جنونه، وكان هو يهرب منهم بسبب بشاعتهم: أجساد بغيضة تشبه مقلاعا مقلوبا تتحرك بلا حياة.

قال الراوي: عثرت في إحدى المكتبات العامرة على مخطوطة معنونة بـ"التاريخ الطبيعي للبشر والحجر" وفيها وصف دقيق لأنواع البشر منذ أن خلق الله الكون، ومن غرائب ما قرأته في المخطوط أنه سيأتي زمان ترى الإنسان فيه يتحول إلى بَشَر، نسبة إلى بشرة جسده، وهذا الوصف ليس من باب إطلاق الجزء على الكل، وإنما هو من باب وصف الأشياء بموصوفاتها.

وقد سألت بعض أهل العلم عن هذه اللطيفة فأخبروني أنه يأتي زمان على الناس يفقدون أعضاءهم الداخلية عضوا عضوا فيصبح الإنسان كتلة منفوخة من الجلد يتقدم نحو حتفه بسلام جنوني. والله أعلم.


[2] - قال صاحب لسان العرب والعجم: الذباب والذبان –بفتح الذال المعجمة أو ضمها- لغة واحدة ألا ترى أنهم يقولون بشر و حشر وعش وشع فيقدمون ويؤخرون ويقلبون ذوات الشبه من الأصوات، وإنما لا فرق بين الباء والنون في الرسم سوى أن النون أثقلت قليلا بكثرة الاستعمال عند العجم فاحدودبت بعض الشيء وحافظت الباءُ على استقامتها، وهذه إحدى لطائف اللغة وسر من أسرار جمالها، فـ"البَاءُ" ومؤنثها "الباءَة" أصبحت تثقل كاهل الشاب الفطن الذي يقتل أطفاله في جسده. جعلك الله من الفطنين إلى هذه اللطيفة التي ساقها لك القدر على طبق من قَصَبٍ لا مِن ذَهبٍ فيذهبَ عقلُك.


[3]- عبارة كان يستشهد بها أستاذ النحو في الجامعة.