مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 2- يتبع.

الجزء الأول من هنا:
2- أعطتني تدوينة لأحد أصدقائي المصريين دفعة جديدة للاستمرار في الكتابة، فقد نسيت مشكلة ثغرة الزمن مع سردال، وتعرفت إلى شخصية جديدة بالصدفة هي عباس العبد، تحدث عباس عن كتاب ألفه موسى بن ميمون حول البواسير وعلاجها، لا شك أن أحد الأيوبيين في زمنه كان مريضا بالبواسير، ولاشك أن ابن ميمون كان يلعب كما يلعب إخوانه الآن بالمؤخرات العربية.

في هذه اللحظة كان سردال ما يزال يبحث عن حل لمشكلته، فكر في مراجعة جميع الأكواد البرمجية التي تسمح له بتجاوز المشكلة،فجأة بدأت الكلمات تهرب من أمامه، وجد سردال نفسه مع عباس العبد يحتطبان، عباس الآن يحمل سيفا، سردال ينظر إليه . عباس يدعوه للمبارزة.

رجعت إلى سيرة سردال أبحث فيها علني أجد ما يعطي مصداقية لهذا العبث الروائي، لم أجد شيئا. وبما أنني منذ البداية كنت أتمرن على كتابة رواية، لم أعر تطور الحدث أية أهمية. على كل حال إن كلمة سردال هي جزء من اختصاصي الذي أتقنه، فبقليل من الذكاء تحيل كلمة سردال إلى السرد المقلوب، وهي حالة ظلت تلازمني طوال الليلة الماضية.

ترك عباس العبد قبيلته حاملا غيظه معه إلى هذا المكان المجهول، كان كل ما فيه من أمارات الحنق والحزن تنبئ أن وراءه تاريخ عظيم من الفوضى، ولكن الفوضى نفسها لذيذة لو كانت منظمة مرتبة، قلت في نفسي: ما أحلى الفوضى المنظمة، هناك ندوب عميقة رسبتها سنون من الهيبة والوقار، وعزة الغزوات في الصحراء.

تخيل عباس العبد نفسه بين جواريه. سقط السيف من يده. تذكر لحظته ووقوفه أمام سردال. رفع السيف وأحكم قبضته. لا يمكن أن تكون مسيرة الإنسان والتاريخ كله بين قبضة سيف ونهد امرأة. فكر عباس وسب نفسه في نفسه.

لم يكن سردال خائفا، ولكنه كان بادي التوتر، حاول سردال أن يتكلم، لكن اللغة أيضا اختفت. بحث سردال عن لسانه. تحسسه. لمسه بيده. اللسان في مكانه واللغة غائبة. لم يدرك سردال أن اللغة نفسها ترتبط بالزمن. لا لغة خارج الزمن، هناك شكل واحد ممكن: أن تتحدث إلى نفسك. تستمع إلى حديقة ذاتك. لا يهم أن يفهمك الآخرون،ليس باستطاعتك أن تجعل حديقتك الخاصة مشاعا للعموم.

حاول سردال أن ينفذ إلى برنامج الزمن، ويقوم بتحديث السطر الثالث عشر، لم يكن الوقت كافيا للقيام بهذا العمل المجنون، يجهد نفسه في تذكر كيفية عمل نظام الزمن، يستظهر في نفسه الكثير من الأوامر والمتغيرات، لن ينفع هنا لا (C++) ولا أوامر (Shell)، خطأ إضافي يمكن أن يجعل الأمر أكثر تعقيدا. يخشى سردال أن يجد نفسه هذه المرة في ضيافة أسد جائع في أطراف الصحراء، أو يكتشف ثغرة أخرى تجعل من بن لادن مرشحا للانتخابات الأمريكية، بقليل من التفكير يمكن أن تحدث هذه الأشياء. العقول تنتقل عبر الزمن بسرعة كورم خبيث. تمتم سردال. عالم مجنون، عالم لا يفصله عن الهاوية إلا جدار شفاف من الحمق.

يقرر سردال أن يخاطر. يرسل سردال بعض الأوامر البرمجية عبر طاقته الإيحائية إلى حاسوبه. عباس يقترب منه أكثر. عباس يشهر سيفه أكثر. عباس مصِرٌّ على المبارزة.

خطر لسردال فكرة ربما تغير الأمر كله: عباس رجل فر من مكانه، وسردال رجل فر من زمنه، منطقيا – فكر سردال – لا يمكن أن نحل مشكلة الزمن بمشكلة المكان، آه لو كان بمقدوري أن أنفذ إلى عقل المكان، بدل أن أبحث في ذاكرتي المتعبة عن الأوامر الضرورية لتغيير برنامج الزمن، على الأقل كنت أستطيع أن أشل حركة يده أو أبعد عنه السيف قليلا، أو ألقي به في أحضان جواريه اللواتي يسيل لعاب المرء بمجرد تذكر طلعتهن البهية.

تذكرت كلب عمتي في البادية. لعابه يسيل بمجرد أن يرى قطع اللحم. بعضنا يموت بمجرد أن يشم رائحته.

لم يكن في استطاعتي أن أجاري سردال. تركته لمصيره مع عباس العبد. أغلقت مذكرتي الخضراء. أحكمت إغلاقها. أكره أن يقرأ غيري ما أكتب. قصدت مقهى "لوازيس". وضع سعيد أمامي على الطاولة المستديرة ما تعود أن يضع. لم تكن هناك ورود حمراء. لم تكن هناك أية سكين. قناة الحيوانات تعرض شريطا وثائقيا حول الأسود وصراع البقاء. تذكرت سردال. لا بد أنه الآن في ضيافة الأسد الجائع. لا أريد أن أعرف، قلت في نفسي. الناس في المقهى يدخنون. على القناة غابة تحترق. الناس في المقهى يسعلون. السماء في القناة تبول. نظرت إلى هاتفي المحمول، Google يذكرني بموعد مهم. أغلقت هاتفي. لا أريد أن يذكرني أحد. دخل بعض الأساتذة إلى المقهى. خرجت. تذكرت جارنا الصباغ. لابد أن يكون سردال قد وجد حلا. هل يعقل أن يستفيق الرجل من نومه ليجد نفسه في صحراء مقفرة مع عباس العبد.

عينا عباس تترقرقان كالبحر المزبد. أجفانه تنقبض وتسترخي. شعر شاربه يتمدد. عباس يعض على شفته السفلى، يتقدم أكثر وأكثر من سردال، الأرض تحت سردال مبللة بالماء.

- لعنة الله على البرمجة والتكنولوجيا، يقول سردال في نفسه!

- لعنة الله على القبيلة. يقول عباس في نفسه!

- قبل عصر البترول كنا نعيش في سلام أكثر، كنا راضين بشعر الصحراء ومضارب الخيام. نعشق بعمق. الآن تغير كل شيء. يقول سردال.

ينظر تحت قدميه. لقد فعلتها. ينظر إلى عباس. هذا الأحمق ينوي على الشر، ما أسهل أن يقترف الرجل الشر. يمني سردال نفسه بالهرب، عباس يقترب أكثر، يضع السيف على رقبة سردال.

يكتشف سردال أن وضع السيف على الرقبة ليس سوى تقليد قديم للترحيب بالضيف الجديد.

إن بعض الظن إثم. همس سردال. هل من الضروري أن يبلل الرجل سرواله من أجل أن يفهم أن الآخر لا يريد به الشر. وأن رقصة السيف التي قدمها عباس ما هي إلا طقس لتقديم الورود على الطريقة العربية.

أيعقل هذا ؟ يقول سردال. لا بد أن يكون برنامج الزمن قد تغير، لا بد أن عباسا كان يريد بي سوءا. لا يمكن للرجل أن يتغير بهذا الشكل إلا أن يكون رأسه رأس أفعى. لابد أن يكون قد حصل شيء ما في برنامج الزمن، كنت أرى ذُراقا في عينيه، وشررا يتطاير من شدقيه، لابد أنه كان ينوي شرا.

لم يشأ سردال أن يسأل عباسا عما يفعله في هذا الخلاء القفر، ولكن علامات الذهول بادية على كليهما، لا يريد سردال أن يستفز عباسا حتى يتأكد من حقيقة نيته، ربما كلمة واحدة طائشة تشحذ السيف مرة أخرى فيسقط المطر. اقتربا قليلا من شجرة هرمة.لابد أنك هنا تبحث عني كما كنت أبحث عنك، بادره عباس.

هذه مقدمة رائعة، يفكر سردال، لا أذكر أنني عرفتك قبل اليوم، ولم يسبق لي شرف لقائك. يؤكد سردال.

نظر عباس إلى سردال مليا، تفحص عينيه. نظر إلى أخمص قدميه، لابد أن تكون أحد حواريَّ. لا يمكن أن تكون هنا إلا لأنك أحد حواريَّ. فلا تخذلني مثلما خذلوني ولك الخلود.

كان عباس يريد أن يسترسل في الكلام، سحابة من التأمل تغشى عينيه، لا بد أن يكون هذا الوهج من أثر صدمة عابرة بالمكان.

رجعت إلى مقهى لوازيس، أمطار خفيفة بدأت ترش نوافذ المقهى، كان مراسل الجزيرة يقدم تقريرا عن اجتماعات الجامعة العربية. تمنيت من أعماقي لو انقطع التيار الكهربائي. انقطع التيار الكهربائي. رجع بعد نصف ساعة تقريبا. ازددت شعورا بالوحدة، طبعا ليس الوحدة العربية.

ألقيت بكأس من القهوة في معدتي. خرجت مسرعا لأصل إلى مكتبي قبل أن تجفل السحب المتخمة بالذنوب وأدعية المنابر، لا أريد أن أتبلل.

كان المؤذن في المسجد القريب يرفع أذان المغرب، فكرت أن أصلي المغرب هناك. وبما أنني لا أشك في كوني ما زلت على وضوء. دخلتُ. اتخذت لي مجلسا في الزاوية اليسرى إلى الخلف. كانت أمعائي تتمزق لكثرة ما استهلكت من سوائل. كدت أبول على سروالي لولا أن تغمدني الله برحمته فدخل الإمام. سردال أيضا بال على سرواله لما التقى بعباس لأول مرة.

في الصف الأول، على يمين الإمام، بمحاذاة الجدار، يقف ثلاثة شبان تصلني روائح المسك والكحل منهم. كم أكره رائحة المسك الذي يباع في وجدة ربما يصنع باعتماد الصيغة الكيمائية الخاصة بخراء الحمير، لا أدري، أحد هؤلاء الشباب كان يرمقني من حين لآخر، هل يعرفني؟ قلت في نفسي. شخصيا لم يسبق لي أن التقيت بشخص من أفغانستان أو باكستان في المغرب. هذا النوع من المخلوقات لا يحب أن يُلوَّث المسجد بسراويل "جينز"، وأنا أرتدي واحدا. يبدو لباسهم نشازا في المسجد، لكن من حقهم أن يلبسوا ما يريدون، قلت في نفسي، ما داموا لا يؤذونني. على الأقل هم يعتبروني مسلما ضعيف الإسلام. كلمة مسلم تكفيني.

وصلت إلى المنزل مباشرة بعد أن صليت المغرب، كانت السماء ترعد مرة أخرى. انقطع الكهرباء نصف ساعة تقريبا فعاد من جديد، ثم عادت معه تقارير عما يسمى بالجامعة العربية. ذهبت لأتبول وفي نيتي أن أعود إلى سردال وعباس العبد.

لم أحبذ الكتابة مباشرة على الكمبيوتر مخافة أن ينقطع الكهرباء فجأة دون سابق إنذار، أخرجت قلمي الذي لازمني منذ دراستي الإعدادية، أسميه العَكَوَّل، اعتدت على ألا أكتب به إلا ما أراه ذا شأن. لا أدري ما سر سحر العكول، فيه براءة طفولتي الأولى. كان الحبر قد تصلب في قناته. حاولت أن أضغط عليه قليلا حتى ينفث بعض المداد الأسود في القناة باتجاه الحوض ثم الرأس، لكن صلابة المداد وتكدسه على جنبات القناة حال دون وصوله إلى الرأس. لا بد أن أقوم بتنظيفه، وهي مهمة تشبه العبادة بالنسبة لي، أحس فيها بالخشوع، ولو كنت أحس بعشر ما أحسه من خشوع في الصلاة، لكان لي شأن وأي شأن. فككت القلم إلى أجزائه الخمسة وابتدأت بجلفته وسنه أنظفهما بنتفة من القطن وقليل من الكحول المركز، أزيل عنهما ما ترسب من سواد العمر حتى أصبحا لامعين. ثم انتقلت بعد ذلك للشّقّ أتحسسه بإبرة ناعمة أسُلُّ بها ما تبقى من طهر الطفولة، حتى إذا انتهيت إلى شباته عالجتها بقطعة من القماش الأبيض النقي، فأصبح القلم شابا وسيما مفتول العضلات، لا يقوى على مجاراته في الكتابة والتدوين عمالقة الصناعة من أهل التحبير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظام البطاقات البحثية بالصور

شرح منظومة تفصيل عقد الدرر في الطرق العشر لنافع - لشيخنا الجليل محمد السحابي (7)

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.