مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 6.

الجزء الأول من هنا.
6-
الفصل الثالث

رفعت السيدة ستائر الغرفة فتسرب إلى الأرجاء قليل من أشعة الشمس الصباحية، لم تكن غرفة كبيرة، فهي تتسع لمكتب صغير عليه حزمة أوراق قديمة، وقلم حبر سائل مغلق بإحكام، وعلى طرف المكتب في الزاوية اليسرى إلى الحائط مزهرية زجاجية كانت السيدة قد وضعت فيها بضعة أزهار بنفسجية. وعلى الجدار المقابل للمكتب الصغير، إطار من خشب قديم يحيط بصورة عابسة لجندي ببزته الرسمية، ترتسم على شفتيه ثلث ابتسامة نكرى، تدل ملامحه على شاب لم يتجاوز العقد الثالث، عندما تنهمك السيدة في الكتابة تخلف الصورة وراءها لتحرسها من خوف أبدي، فقد انتقلت الصورة مع السيدة من منزل إلى آخر طيلة أربعين سنة، ظلت الصورة مسمرة في مكانها في نفس الجهة من الغرفة.

يعم الغرفة هدوء دافئ يتسرب عبر مسامات الجلد بروية فيخلق جوا من المتع الحسية التي لا تقاوم، ولأول وهلة تحس أنك في قطعة نائية من أجزاء الروح، الفوضى الجميلة المنعشة تنساب هادئة في سكون الغرفة كقطعة موسيقية تعزفها الأشياء الصغيرة المبعثرة في كل مكان.

قلت في نفسي: ما أغبى علماء النفس ! يجعلون الإنسان محورا لتأملاتهم النرجسية. مرآةً لإسقاط أمراضهم الضاربة في أعماق التاريخ، وينسون أن مجال علم النفس هو الأشياء. الأشياء الحقيرة التي لا ينتبه إليها أحد. والتي تصرفنا عن جوهرها لكي لا نعكر عذريتها بتأملاتنا الساذجة. تلك الأشياء الصغيرة التي تمدني بفرحة الطفولة!

تتذكر السيدة ذلك اليوم الصيفي حين هم عباس بمغادرة المدينة، حمل أمتعته القليلة ثم غادر. لم تكن الأسرة تمثل له الشيء الكثير، فقد ضيعت فيه الأسرة أهم ما يملك، أفقدته حضن الأم ومنطق الأشياء، ولولا أنه تعلق بالسيدة أكثر من أي شخص آخر ما فكر في العودة إلى المدينة، تتذكر السيدة هذا اليوم بمرارة، فهو يذكرها برائحة الكلاب النافقة بسبب الحر الشديد الذي اجتاح المدينة، يذكرها باختفاء عباس، ظنوه لفترة أنه قد نفق في مكان ما، أو ربما سجن كما في إحدى المرات حينما اتهم بالتقصير في تأدية الواجب. والحق أنه ضُبِطَ يدخن الحشيش في مركز المراقبة.

كان صدى الشاب ذي البزة العسكرية يتردد في أنحاء الغرفة بصمت رهيب منعش، كأنما سرى في الغرفة شذى سحر من تلك اللحظات الجميلة القليلة التي كانت السيدة تنتظرها كلما أقبل موسم حصاد وفير.

نادت السيدة فوصلها في الحال فطورها الصباحي. ارتشفت بضع رشفات من قهوتها ووضعت الكأس مباشرة أمام المزهرية. أخذت السيدة قلم الحبر السائل وبدأت تكتب في إحدى الأوراق. سجلت برنامجها اليومي باهتمام زائد، ولم تنس أن تخصص وقتا مهما لصديقاتها، عادة تبدأ نزهتها الصباحية مباشرة بعد تناول الفطور، يُسمع قرع عصاها وهي تنزل من السلم المؤدي إلى حديقة المنزل، لكن اليوم هو استثناء، فقد حبسها مطر خفيف يظهر ويختفي. لم تكن حالة الاختفاء حدثا عارضا في حياة السيدة، فقد توارثه أبناء العائلة جيلا بعد جيل، فأقرب حدث تذكره السيدة بوضوح ويتسرب إلى نفسها كحزمة من أشعة شمس خافتة هو اختفاء الجد الأكبر ذي الشارب الكبير العريض في طريقه إلى القدس بعد أن أنهى مناسك الحج بالديار المقدسة، تتناقل القرية أخبارا متضاربة بشأنه: بعضهم يرجح أن الجد الأكبر استقر في القدس وتزوج امرأة مقدسية، وبعضهم يؤكد وفاته حتى قبل أن يصل القدسَ، والذين يعرفون شخصية الجد الأكبر يرجحون موته في طريقه إلى القدس، فالجد الأكبر ليس معجبا بالنساء إلى الدرجة التي تجعله يترك القبيلة كلها والحياة كلها ليستقر في مكان بعيد مختلف كل الاختلاف وهو الذي لم يبرح القرية من قبل إلا ما ندر. والواقع أن السيدة – على خلاف الإجماع- ترجح زواجه: "هذا الصنف من الرجال لا يحفظ عهدا. الرجال الصامتون لا يحفظون عهدا". تردد السيدة كلما سُئِلَتْ عن قصة الجد الأكبر.

على أن للسيدة تاريخ طويل مع حوادث الاختفاء، حتى إن الأشياء الصغيرة الكثيرة تختفي من أمام عينيها من وقت لآخر. تختفي الأواني من المطبخ فجأة ولا يبقى لها أثر، وقد كان يحدث في سنوات المجاعات الكبرى أن يختفي الدقيق والسكر في كل ليلة. بقي الأمر على هذا الحال مدة من الزمن. وقد حاولت السيدة – وهي الأم الحريصة على ألا يموت صغارها جوعا- أن تراقب من مكمن قريب هذا الغريب الذي يسرق الطعام والأشياء، لكنها استسلمت في آخر الأمر واطمأنت إلى هذه الروح الغريبة التي تقاسمها الفاقة وقلة الحاجة، وعدتها فردا من العائلة، الجفاف والجوع لا يضمران البطون وحدها بل يهدان النفوس أيضا، يحولان القلوب الراضية المطمئنة إلى وحوش كاسرة قذرة، وَلَشُدَّ ما عرفت السيدة أن حراس البيت وساكنيه من الأرواح الأخرى قد تأذت من هذا الشر، فأصبحت تترك بعضا من الطعام وقليلا من جلود الدجاج في المطبخ المشرع على السماء قرب كانون صغير متفحم، ثم تعود إلى خبائها تنام مطمئنة الروح هادئة الروع كأنما نفضت عن نفسها تأنيب الضمير ووخز السنوات.

لقد تحققت من الأمر ولم تعد تشك في قناعتها بشأن اختفاء عباس، الواقع أنه لم يمت في حرب الصحراء المقدسة كما تصر على ذلك الروايات المتواترة، فليس هناك دليل يؤكد وفاته: ليس هناك جثة أو بقايا رفات، وإنما كل ما هنالك أنه لم يعد إلى المركز كما عاد بقية الجنود بعد إنهاء مهماتهم. لقد اختفى عباس فجأة دون أن يحس به أحد. أحد أصدقائه القدامى يؤكد بمرارة ويقين أن عباسا قد رُفع. " المسكين، لقد رُفع ! " بقي سر اختفائه غامضا عشرين سنة كاملة، حتى كلمني سردال ذلك الصباح على مائدة الإفطار ليعيد فتح جرح قديم اندمل أو كاد، لتقادم العهد وطول الانتظار، أما السيدة فلم تكن تشك في يوم من الأيام أنه حي يرزق، وأن حديث الناس عن اختفائه ليس سوى لقصر أفهامهم في تناول أسرار عائلية لا يدركون غايتها أو سر حدوثها. الحقيقة أن السيدة كانت بارعة في القياس، فقد أدركت بحدسها أن اختفاء عباس مدة من الزمن طالت أم قصرت لا تعني بالضرورة أنه قد مات. اختفاء الإنسان كاختفاء الأشياء. لا شيء يميز هذا عن ذاك. تدرك السيدة تمام الإدراك أن أشياءها الصغيرة كانت تظهر في أماكنها المعهودة بعد فترة من اختفائها. آخر شيء ظهر قبل أسبوعين تماما. أسطوانة قديمة من الألمنيوم كانت السيدة قد أخذتها من مخلفات الجنود الأمريكيين (في ما يعرف بعام مِريكانْ) واستعملتها لجمع الأغراض الصغيرة كالأزرار المهملة وبكرات الخيط والإبر وأشكال من الدبابيس الصدئة تعود إليها من حين لآخر. وجدتها في مكانها الذي اختفت منه، لم تستغرب الأمر فقد تعودت حصول ما هو أغرب من اختفاء هذه المهملات الصغيرة. فقد اختفى اللحم من القدر فجأة وحل محله قطعة قماش كبيرة ظلت تطبخ مع قليل من البطاطس والفاصوليا ساعة أو يزيد، ولولا سمك القماش وقسوته لذابَ مع الإدام، ولما حان العشاء نظر بعضهم إلى بعض فأشارت السيدة إلى الجميع أن يصمتوا ويسلموا لأصحاب المكان. فربما اشتد بهم الجوع فمروا بالقرب فاشتموا رائحة اللحم فأخذوه. والواقع أن أصحاب المكان ما كانوا ليأخذوا اللحم ويتركوا البطاطس والفاصوليا والإدام. والواقع أيضا أن أصحاب المكان هُما عباس وسردال. ظلت السيدة ترقب السماء نحو نصف ساعة حتى تتأكد من رحيل المطر. السماء ضرع لا ينضب. السماء سهام من المياه تمرق وتنسحب.كلما همت السيدة بالخروج تراجعت فاحتمت بسقيفة البيت، حتى إذا انقطع المطر وعزمت السيدة على الخروج برقت السماء من جديد فأفسدت عليها عزمها فتراجعت مرة أخرى. أرض موحلة وأوراق أشجار متفسخةٌ. يظهر الأفق البعيد شاحبا فقدَ امتداده. آثار أقدام كئيبة مغروزة في الصلصال المشبع بالماء، كوليد استقبلته الحياة بعملية قيصرية، الأنين في كل مكان. الأقدام الموحلة تنغرس في طبقات الطين كقارب قابع في بحيرة متجمدة. لقد مرَّ عباس من هنا. لقد عاد. وانتشت السيدة بالذكرى. استغرقت في حلم لذيذ. أحست بالدفء يطرد الصقيع من أنحاء جسمها المترهل. وقد بقيت على هذا الحال مدة من الزمن حتى ظنت بها الظنون. فقد كانت تتفقد قبر سردال الفارغ مرة بعد أخرى، تتحسس ما به من أسمال بدَّدَ نسيجها الزمن، رائحة الملابس والعرق المتجمد، ولو قدر للتاريخ أن يسجل تاريخ الروائح كما يسجل تاريخ السفهاء لتبدى العالم مختلفا، والماضي مختلفا، ولكانت حقيقة الإنسان غير التي نعرفها الآن. إن تاريخ الرائحة لا يمكنها أن تخطيء في صياغة التاريخ. فهي البصمة التي يجهد الإنسان في إخفائها عن مسرح الأحداث لوعيه التام بنتانتها البغيضة، لكن الرائحةَ التي كانتْ السيدة تسترجع بها الماضي كانت رائحة مختلفة...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظام البطاقات البحثية بالصور

شرح منظومة تفصيل عقد الدرر في الطرق العشر لنافع - لشيخنا الجليل محمد السحابي (7)

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.