الجمعة، 3 يونيو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 4.

الجزء الأول من هنا.
الجزء الثاني من هنا.
الجزء الثالث من هنا

4- "أتصور تاريخا طويلا يحمل ذيلا طويلا من أذيال الخيبة الطويلة"، ومع أنني أدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الحياة الفكرية يجب أن ترقى إلى درجة تحطيم الذات فإنني في الوقت نفسه أدرك أن العقل الذي ندافع عنه لا يمكنه أن يتحقق في حياتنا القصيرة إلا إذا فهمنا فلسفة عباس العبد وإشاراته الرائعة، ولن يتحقق هذا الحلم إلا بتحطيم الذات. مجرد فهم الأشياء لا يوحي بشيء ذي أهمية عقلية، ولكن الأهم أن نصنع من هذا الفهم مسافة تبعدنا عن الانصهار في أعماق الإخفاق.

تركت سردال في تلك الليلة يبحث عن مخرج لورطته مع عباس، لم يكن أمره يهمني كثيرا، لقد انقطعت الصلة بيني وبينه عندما هممت بإلقاء محاضرة في فلسفة الشعر، وكم كنت سعيدا ومحظوظا آنذاك لأن لا أحد كان يفهم ما أقول، وكنت ألحظ على وجوه المستمعين دهشة طفولتي الأولى وهم يحاولون أن يعيشوا لحظات لم توفرها لهم أجواء المدينة التي تحفل بكل شيء سوى الإحساس بالشعر، ولم يكن يساورني أدنى شك في أنني كنت مزدوج الديانة ولم أكن موحدا، فقد كان الشعر دينا ثانيا لي، تماما كحالة متصوف في أيامه الأخيرة، ومن غريب الصدف أن أكثر من كانوا معجبين بعبقريتي الطفولية آنذاك أصبحوا في ما بعد – في فترة التعقل- من أشد الناس عداوة لي، ولست أفهم لحد الآن سر هذا التعارض بين بساطة الطفولة الأولى وتعقل الكبار حتى عندما اشتد عودي وهجرت الشعر، ولعل هذا السبب هو الذي غير حياتي الشعورية في دراساتي الجامعية، فلم أكن أستطيع التوفيق بين سحر الشعر وعداوة المقربين، أن يكون الشعر مهمة حياتك يعني أن تعيش في عزلة بعيدا عن الناس، ولذلك جعلت الشعر ينزوي في زاوية بعيدة عن أوجه الغرباء، وكان المتنبي وأبو العلاء المعري هما رفيقَيْ هذه العزلة الاختيارية.

لم يكن عباس العبد أكثر عزلة مني، فكلانا كان يفكر في نبوءة تأتي أو لا تأتي، وكلانا كان يدرك أن النبوءات لا يمكنها أن تنجح في مجتمع الشياطين، مجتمع يهيمن فيه الغموض على أشعة الشمس، كل ما تستطيع أن تفعله هو أن توطد نفسك على الرحيل منذ اليوم، قال عباس العبد موجها عينين ثاقبتين إلى سردال وهو يفكر في العودة إلى موطنه.

لكن أين الوطن؟ هنا أشعر بحرية أكثر، حتى أدق خصلات شعري تحس بهبة نسيم لم أحس به طوال حياتي. قال سردال بكثير من الأسى.

ليس للوطن حدود، الحدود تصنعها الكراهية، وتنفذها العقيدة. قال عباس. حتى حدود الجسد لا يمكنها أن تحد رغبتي في ركوب الأمواج، ولا يمكن للزمن أن يكون عقبة في طريق إشباع رغبتي في أن أكون ذرة في جذر شجرة أو حتى دودة بئيسة في قلب جيفة نتنة، إنني أتمثل الموت شاخصا أمامي في كل لحظة، أشم رائحته في مسامات جلدي، وفي تصببات عرقي، يا إلهي كيف يمكن الرجوع إلى الوطن الذي يسكننا ولا نكاد نحس به، إن أكبر مشاكلنا المعاصرة لا تساوي شيئا أمام هوله المرعب لو امتلكنا إحساس فراشة في يومها الأخير.

ما تزال النافذة مُشْرَعَةً. أغلقتها. أغلقتها بإحكامٍ. نظرت إلى السقفِ. تأَمَّلْتُهُ. أسلاكُ المصباح دالية مثقلة بالضوء. يبدو بضوئه كنجم شاردٍ. إنه موت رائع سيحسدني عليه الناس، وستضطر الصحافة للبحث عن مقدمات وخواتم رائعة. ستذكرني الصحف أخيرا. انطلق خيال الصحافة أخيرا. وضعوا عشرات الاحتمالات هذا الصباح، لكن ما أثارني هو عنوان عريض وجدته بالصدفة وأنا أتصفح زاوية التأبين. المبدع الكبير الدكتور كارسيا ماركيز المغربي وجد منتحرا في غرفته يومه الجمعة، وفي هذا اليوم قال الناس بالإجماع: لقد خسر المغرب أحد أعظم مفكريه. ضحكت من أعماقي: لأنهم يكذبون. حتى أولئك الأقزام الذين لم يكونوا يعترفون بعبقريتي اعترفوا أخيرا، ما أجمل الموت... رأيتهم يقدمون لأسرتي صدقةً لشراء كفني. رفضها ابني أيوب: سمعته يذكرهم بوصيتي: الأنبياء لا يقبلون الصدقة. وعلمت منذ تلك اللحظة أنه سيكون روائيا عظيما.

بدأت أولى زخات نوفمبر تحدث مسارات عنيفة على النافذة المشبعة بالغبار، تذكر عباس كحل زوجته عند الفراق. تحسر بمرارة. أدار ظهره للباب الخشبي. اقترب من النافذة. ما أجمل أن يراقب الرجل العالم من شرفة غرفته. قال بصوت يشبه الهمس كأنما يحدث شخصا قريبا منه.

فتحتُ النافذة. تحسست زخات الماء بأنامل متورمة، تنبعث من الماء روائح الكبريت، ونسمات الهواء مبللة برائحة المزبلة القريبة تزكم النفوس، القذارة تعم المكان، فكَّرتُ: هذه أبلد لحظة يموت فيها الإنسان، الكون الواحد لا يمكن أن يتسع للإنسان. لذلك من الضروري أن يبحث الإنسان عن أكوان جديدة أكثر ضياء وأشد بهجة. من الضروري أن يبحث الإنسان في ذاته عن أكوان لم تكتشف بعد. من التعاسة أن يشتغل الإنسان طول حياته كحمار دون أن يفهم أن هذا العمل يسلب منه أعز ما يملك: أكوانه الداخلية، حياته الخاصة العميقة التي لم يقترب منها أبداً. قال عباس وهم بالانصراف. قاطعه سردال بأن العقل يفرض العودة إلى الواقع واختبار إمكانياته، لكن لم يبد على عباس أي اهتمام. فما يراه العقل فرضا ليس في حقيقة الأمر سوى سخافات ترسخت بفعل التكرار الذي يعلم الحمار. شخصيا لم يكن يهمني كثيرا الجدل بين سردال وعبد السلام، فلقد كنت أدرك أنهما سرعان ما يتفقان حينما يشعران بالجوع، لذلك كنت أحتاج فقط إلى بعض الوقت ريثما يتوقف المطر.

كانت السماء ما تزال ترسل وابلا من المياه، وكأنها تتقيأ بقايا قطع من البصل تتهشم على السطوح المغبرة فتتناثر محدثة فرقعة تشبه الشهب النارية، وكنت ما أزال حتى هذه الساعة أتأمل هذا المشهد الموغل في البدائية، أشفقت على عباس العبد: فعلى الأقل أنا الآن في مكتبي وبين كتبي تفصلني عن العالم شريحة زجاجية كأنما أرنو إلى شاشة كبيرة، أما عباس العبد فما يزال في العراء يبحث عن نبوءة محتملة كأنما يبحث عن سر مفقود.

أَعْجَبَتْني فِكْرَةُ عَبَّاسٍ، عَلى الأَقَلِّ هُناكَ عَمَلٌ جادٌّ هُوَ بِصَدَدِ القِيامِ بِهِ، لا يُهِمُّ إِنْ كانَ عَلى صَوابٍ أَوْ عَلى غَيْرِ صَوابٍ. أَمَّا أَنا فَأَقْبَعُ خَلْفَ تاريخٍ طَويلٍ عَقيمٍ مِنَ الكُتُبِ البَليدَةِ أُقَلِّبُ صَفَحاتِها كَأَنَّما أُقَلِّبُ جَماجِمَ المَوْتى وَأَرْواحَ الشَّياطينِ، أَدْفَعُ ضَريبَةَ بَقائِهِمْ أَحْياءً مِنْ راحَتي وَأَعْصابي، وَتِلْكَ هِيَ التَّعاسَةُ البَلْهاءُ. لَمْ أَجِدْ شَيْئا أَقومُ بِهِ سِوى أَنْ أُراجِعَ مُسْوَدَّاتي وَأَضْبِطَها بِالشَّكْلِ التَّامِّ، تَذَكَّرْتُ صَفْعَةً عَلى قَفايَ انْطَبَعَتْ عَلى ذاكِرَتي بِسَبَبِ "حِمْصَ"، إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ لي مَعْرِفَةُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، فَضَبَطْتُها هَكَذا "حُمْصَ" فَقالَ لي المُعَلِّمُ ساخِرا : " أَضِفْ لَها الفُولَ حَتَّى تُفْهَمَ"، لَقَدْ وَخَزَتْني هَذِهِ الكَلِماتُ كَوَخْزِ الإِبَرِ، وَكُلَّما تَذَكَّرْتُ هَذِهِ الْكَلَمَةَ أُحِسُّ بِالأَلَمِ في بَطْني وَأَشْعُرُ بِرَغْبَةٍ شَديدَةٍ في التَّبَوُّلِ.

لم يكن سردال قد بال على سرواله سوى في المرة التي دعاه فيها عباس للمبارزة، لكنه يتذكر الآن أنها تجربة لا تنسى، وبرر الأمر بأن الرجال فقط هم الذين يبولون على أنفسهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهو إحساس لا يعرف قيمته إلا السياسيون المخضرمون، فبدل أن يبول الإنسان على الأشياء المحيطة به وعلى الناس، فإنه يبول على نفسه اتقاء لشرهم ودرءا للشبهة. تماما مثلما هو الحال مع السجن لا يدخله سوى الرجال.

كان هذا المبرر كافيا ليفهم عباس العبد أن ما جرى له من أحداث، وما تعرض له من إهانات لا يساوي شيئا من أجل تبليغ حكمته إلى الناس وأن ردسة البغل التي تعرض لها في طفولته الأولى على رأسه هي أكبر نعمة وهبت له في حياته، حتى غدا يرى العالم بشكل مختلف، عالم أكثر ضياء وإنسانية، وتذكر حين بحث عن أمه بجانبه في فراشه فلم يجدها. اغرورقت عينا عباس بالدموع، وسادتها المبطنة بصوف الخرفان ما تزال دافئة. أحس عباس بدفئها يسري في عظامه. تأمل الحجرة. أركانها. بابها الخشبي المهترىء. السرير الترابي المسلح بأغصان اللوز وأحراش الخروب في أقصى الزاوية إلى اليمين. جراب اللبن معلق إلى خشبة في السقف. لا يظهر من السقف سوى خشبتين. أكثر السقف مغلف بالبلاستيك لمنع الماء من التسرب، تفوح من تحته رائحة الصراصير النافقة وسط بركة من ماء، تميل ذات اليمين وذات الشمال، وكلب ينبح في الحوش كأنه وحش صغير. أحس عباس بأن الغرفة التي قضى فيها ليلته البارحة قد تغيرت في الصباح. الغرفة تغيرت. والواقع أنهم أخذوه ليلا من بيت جده حيث تقيم أمه وأحضروه إلى بيت أبيه.

لم يكن البيت غريبا بالنسبة إليه، فقد سبق له أن نام فيه قبل بلوغه الشهر السادس من عمره، فهو لا يكاد يتذكر من الشهور الستة الماضية سوى بعض أطياف كمن يغمض عينيه في الظلام فتتراءى له ذرات ساطعة كأنها دوامة غير منتهية من النور يسبح في بركة من السواد، ولكن مع ذلك أدرك أن لا أثر لرائحة أمه في أرجاء المكان، لم يتذكر أنه أجهش بالبكاء، فقد كانت جدته تسهر على إطعامه متى حان وقت الطعام. ومع ذلك أدرك أن عالما جديدا قد بدأ يتشكل، وأن وحشا صغيرا نما في مرآة ذاته، حتى إن أنفه أصبح يأخذ شكل خنزير قذر.

في السنوات الأولى نسي شكل الأم تماما، نسي ابتسامتها العذرية المشرقة، تناسى جدائل شعرها الأسود المتفحم واكتناز صدرها المراهق المسافر مع الريح، حتى إن قاموسه الشخصي لا يعترف بكلمة "أمّ" بسبب ما كانت تحدثه هذه الكلمة في نفسه من صنوف الألم الذي لا ينتهي، ولم يكن يقهره شيء في حياته أكثر من أن يرى طفلا في حضن أمه، أو قبلة زائفة تطبعها زوجة عَمِّهِ على شفتي ابنها الوليد، كان كل ذلك يؤرقه ويجدد في نفسه المواجع، فأقسم منذ تلك اللحظة أن ينتصر على هذا الشعور اللعين الذي يذكره بضعف النساء ومشاعر الفاشلين.

لم يكن من السهل أن يلتقي بأمه. بعد عصر يوم سبت شديد الحرارة، حتى الطيور لا تجرؤ على التحليق في الجو، رمقته أمه مع الصبية يلعب كما يلعبون، اختطفته خطفا. سارت به بين نبات الصبار حتى أدخلته الدار الكبيرة، في المدخل الأمامي من الدار إسطبل مخصص للبغل وبعض الماعز، يليه فناء واسع تتوسطه دالية وارفة الظلال، اتخذ الجد تحتها مجلسا يصنع فيه برادع الحمير من الحَلْفاء، مستعملا في ذلك "رَزامَةً" خشبية ثقيلة تشبه مطرقة عريضة المضرب على شكل أسطوانة لها مقبض طويل يتسع لكف واحدة، ومخصفاً من حديد صَدِئًا يرتق به البردعة قطعة قطعة، ويملؤها بالتبن اليابس حتى تأخذ الشكل الذي يصلح أن يوضع على ظهور الحمير، وقد كان يحمد الله ويمجده لأن تعقيدات الحمير ليست كتعقيدات البشر، فجميع البرادع تصنع بمقاس واحد، فلا فرق بين حمار وآخر، ففي نهاية الأمر ستوضع كلها على ظهر الحمير، وقد يقتضي الأمر في بعض الأحيان أن تأخذ مكانها على ظهورهم بقليل من الركل والرفس مثلما هو الحال بالنسبة للبشر حينما يكون الحذاء ضيقا فيضطرون لبعض الجهد لإدخاله...

كان عباس غارقا في تأملاته في عالم الحمير، وكانت أمه تركز نظراتها في عينيه كأنما تراه لأول مرة. لم يكن يعيرها أدنى اهتمام، بل كان يشعر أنها تضايقه لأنها تقطع عليه لذة التأمل في حركة المخصف يخترق البردعة.

في الواقع لم يكن الجد يصنع البرادع من أجل الحمير، أو إشفاقا عليها من ثقل الأحمال، وإنما كان يصنعها لأَجْلِ الحفاظ على مؤخرات راكبيها، ولولا هذا السبب الوجيه لكانت الحمير قد فكرت في صناعتها كما نصنع نحن أحذية تقي أرجلنا.

أدرك عباس أنه لن يمكث طويلا عند أمه في الدار الكبيرة، فسرعان ما يتفقده أهل أبيه فيأتون للبحث عنه وإرجاعه تحت وابل من السباب والشتائم، مشهد العائلتين يتسابان كان يبعث في نفسه الكثير من اللذة، فقد كان هذا الموقف يشعره بأهميته، خاصة حينما يقارن نفسه مع أترابه الذين لم يكن أحد يبحث عنهم حتى ولو قضوا نصف النهار يتمرغون في روث البغال.

أُخذ في المساء من حضن أمه دون مقاومة. ألقي به في خُرْجِ حمارٍ تَعِسٍ. سار به الحمار بين مسارات ملتوية. توقف الحمار فجأة وعلا نهيقه بعد أن رأى أتانا مقبلة نحوه تحمل برميلين من الماء. الحمير ترى الأتن السوداء في الليلة الظلماء تحت الصخرة الصماء، أنزله عمه من خرج الحمار تحسبا للطوارئ. الحمير مثل البشر عندما ترى الأنثى. همس العم كأنما يتحاشى أن يسمعه عباس.

لعن العم الحمير كلها: أشهبها وأسودها، صغيرها وكبيرها. لعن كاسبيها. "الحمير هي أكبر مشكلة في الدنيا" قال العم، وأضاف: "حينما تشم رائحة الأنثى خاصة" زم شفتيه ولعن زوجته في نفسه.

وَكَزَ العم الحمار ليَحول بينه وبين الأتان المفزوعة، لكن رغبة الحمار لا تقاوم، انقض على الأتان كهزبر جائع، طُرح العم أرضاً. سقطت البراميل. ضاعت خمس كيلومترات من الماء، عادة عندما تسقط البراميل من ظهر الحمار لا يمكن حملها من جديد لثقلها، فتكون رقية مضطرة لإفراغها والعودة إلى الساقية لملئها من جديد، لعنت رقية حمار العم وسلالة الأسرة كلها وراء ابتسامتها الرقيقة المشفوعة بندم خفيف على هذه المصادفة المقرفة، أحسست بدموعها تكاد تغمر المكان، لكنها لم تفعل استحياء، ولو كنت مكانها لقتلت الحمار اللعين. توسل إليها العم أن يذهب بدلها إلى الساقية ليملأ لها البراميل، تعللت بأن في البيت ما يكفي من الماء حتى مساء الغد، ساعدها العم في رفع البراميل الفارغة حتى أخذت مكانها على البردعة ثم انصرفت محمرة الوجنتين.

أخذني وألقاني مرة أخرى في خرج الحمار كما تلقى الأشياء التافهة، كنت أحس بوخز الحلفاء في مؤخرتي بسبب نتوءاتها الحادة، أتقلب في الخُرج ذات اليمين وذات اليسار، أعدل موضعي كلما ازدادت آلامي، يسير الحمار ببطء في طريق كأنها لسان كلب، يتعثر ولكنه لا يسقط. أحمد الله وأستوي في جلستي. يتعثر مرة ثانية ولكنه لا يسقط. أحمد الله وأعدل مرة ثالثة من جلستي. حتى إذا وصل إلى ناحية ضيقة من الطريق يحدها نبات الصبار من كل جانب، رفع رجليه إلى السماء وقذف بي وسط الشوك ووقف يتفرج انتقاما من هذا القزم الصغير الذي يمتطيه، ومن ذلك العم اللعين الذي حرمه متعة لقاء الأتان.

حُمل عباس على ملحفة عريضة إلى الحوش الكبير، كان الوقت عشاء، غطى الشوك أغلب جسده النحيل، لا يوجد شبر من جسده لم يصب بأذى، اجتمعت النسوة كلهن حوله يسللن الشوك بمقابض صغيرة من حديد كتلك التي يستعملنها في تسوية الحواجب، كان يحس بروحه تخرج مع كل شوكة تسل من جسده، لكنه لم يكن يذرف أية دمعة. ألا تتألم؟ تساءلت الزهراء. رد العم وكان غير بعيد يعد قراطيس "الشمة": إن جسده جسد حمار. أخفيت الكلمة في نفسي ولم أرد.

كان العم على حق، فقد تعافى عباس في ثلاثة أيام، وأثبت للجميع أن جسده جسد حمار. ومنذ تلك اللحظة علقوا في عنقه بعض التمائم وأصداف البحر الصغيرة دفعا للعين والحسد. ودفعوه إلى فقيه القرية يحبسه في زاوية معتمة يستمع إلى الطلبة يقرؤون في ألواحهم ويلوحون برؤوسهم يمينا ويسارا كأنهم صفصافة كبيرة في مهب الريح.

الحمار، أجل! الحمار هو سبب كل هذه المشاكل.

لم تمض سوى أشهر قليلة حتى أقبل فصل الحصاد، كانت ذكرى الحمار الملعون ما تزال ترن في أذنيه مدوية، وما يزال جسده يحس بوخز الأشواك كلما مر من لسان الكلب، وكلما تذكر هذه الواقعة الأليمة ازداد كرها للحمير. حتى إذا أقبل الحصاد وتركت في المساء ترتع طليقة من غير قيود، تنفيسا عن يوم شاق من العمل المتواصل في دَرْس القمح وتحميل المؤن إلى الحقول. فَكَّرَ عباس مليا ثم تدبر، ثم حز في نفسه أن يتعرض لمزيد من الضرب المبرح إن هو أقدم على ما تدبره، ولكن الحمار اللعين يستحق كل شر جزاء فعلته الماكرة، لا يمكن للحمار أن يسلم من فعلته الخبيثة، ليعلم هو وفَصيلُهُ أن مثلَ عباس لا يُعبث به، وأن كل من سولت له نفسه إيذاءه سيتعرض للانتقام، أصر عباس على إحراق الحمار حتى الموت، فقد رأى كيف يتخلص أهل القرية من بقايا السدرة في الحقول، كانوا يرشون عليها سائلا لزجا ويضرمون فيها النار، وكان مشهد السدرة تحترق وجذوات اللهب تتطاير منها يستهويه ويأخذ بمجامع نفسه. وكان يطرب أشد الطرب حينما تحاصر النار أسراب الخنافس والزواحف التي اتخذت من دفء هذه الأحراش مأوى لها، فتبدأ في تدافع مسعور لتتقي اللهب الحارق والدخان الخانق. وكان قد رأى كيف يصنع القرويون الفحم من جذوع أشجار اللوز والخروب، فكان كلما رأى نارا تشتعل أحس بنشوة لا تقاوم. فعزم على أن يشعل النار في الحمار حتى الموت، ولم يكن يثنيه عن تنفيذ خطته الممتعة سوى فرصة إيجاد الحمار وحيدا يرعى في العراء حرا طليقا، قنينة صغيرة واحدة من غاز القناديل كافية لتشعل النار في هذا الحمار الغبي جزاء على ما اقترفه من غباء.

النارُ تشتعلُ. شوارع غَزَّةَ تحترق. الأشلاءُ تتناثر في الطرقات. العرب ينددون. القرويون يتفرجون. العرب يغلقون الحدود ويمنعون دخول المؤن. القرويون يصعدون إلى سطوح المنازل يضحكون ويتغامزون. النار تشتعل. القنابل تنفجر. ليلة أولى. ليلة ثانية. ليلة ثالثة...ألف ليلة وليلة، القصف يتواصل. العرب يترقبون. يعدلون من جلستهم. الجامعة العربية أوف، لا تستحق حتى أن تذكر، الأئمة في المساجد يدعون بالهلاك المبين. القرويون يدعون على صاحب الفعلة بالسخط والثبور. الحمار يجري. يتعثر في آلامه. ينهق بأعلى صوته. النار تصل إلى أحشائه. الزبد يتطاير من لسانه. القصف متواصل. القنابل تتساقط. الأمطار تتساقط. العرب يتفرجون. القرويون يتفرجون.

كان العم ما يزال بعيدا في أحد الحقول المجاورة. أنقذ شبابُ القريةِ الحمارَ من النار. غزة مازالت تحترق. هرب عباس إلى بيت أمه. وفي العاشرة جاءت زوجتي ونظفت المائدة. ألقت بالوردة الحمراء الذابلة إلى القمامة، غسلت السكين الفضي ووضعته مع أغراض المطبخ.

الأربعاء، 1 يونيو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 3 .

الجزء الثاني من هنا.

3- ثم إني لما انتهيت من هذا كله، عمدت إلى مذكرتي الخضراء، وقد كان أن أصابها ما ترشح من السماء من ماء، فساحت كلماتي فنمت أنهارا وأشجارا، فنسيت سردال، وأهملت عباسا لبعض الوقت وقلتُ:

لعل الله يجعل في خروج الكلمات من أكماتها خيرا، فتحل كلمة مكان أخرى، وتثور النقطة على النقطة فيصبحان جسدا واحدا للتفسير، وحالنا يحتاج إلى تفسير.

لم يعطني القلم أية رغبة في الكتابة الآن، لذلك أخذت قلما جافّا، وهو اسم على مسمى، فما إن أمسكه بيدي حتى يجف عقلي وينضب خيالي. لذلك فضلت أن أعيد تصميم بعض أحداث الرواية، وتقليص الجمل الطويلة.

كانت مشكلة عباس العبد – على الخصوص- تؤرقني، فقد كان في مخيلتي أن أجعل منه نبيا، أو بتعبير مقبول، مدعيا للنبوة، وبما أن كل نبوة هي في الأصل كشف فقد وضعت عدة احتمالات مؤرقة ليس من السهل الحسم بينها، منها أنني كنت ترددت كثيرا في أن أجعل منه ساحرا أو شاعرا أو حتى مجنونا، رجعت إلى مراجع كثيرة لأقرأ عن فلسفة التدين وطقوس العبادات القديمة وأساطير الشعوب، وهذه هي المرة الثانية التي أتذكر فيها أنني بصدد كتابة رواية، حاولت أن أبعد عن نفسي هذا المارد المسمى بالوعي، ولكنني كلما أبعدت الوعي من دائرة اهتماماتي كلما ازددت وعيا بضغوطه.

إذا لم تنجح هذه الرواية، أكون قد قضيت على نفسي بيدي، لابد أن أبعد الوعي أو على الأقل أتجاهله حتى تنجح الرواية. قلت في نفسي.

مسألة جعل عباس مدع للنبوة لم ترق حتى لزوجتي، مما جعلني أقضي الليل كله أبحث في سيرة عباس علني أجد ما يقربني من فهم هذا الغموض الذي يحيط بسيرته.

لا يذكر عباس إلا يوما منحوسا، كان يوما صائفا، تفرغ فيه الفلاحون لحصاد القمح، كانت الشمس ترسل سهاما قاتلة من السماء، شواظا من نار تلفح الوجوه. الأرض تحت أقدامهم تجعل الدماغ يغلي كمرجل منسي. حتى الحمير والبغال أصبحت تحرن ولم يكن من السهولة السيطرة عليها إلا بشق الأنفس. لم يجرب عباس السقوط من ظهر بغل خارج عن السيطرة أبدا حتى كان هذا اليوم المشؤوم.

فقد عباس الوعي بنفسه وبالأشياء يوما كاملا، وعلى ناصيته ترتسم تفاصيل لحظات ما قبل عودة الوعي.

عباس محاط بنسوة من القبيلة يقرأن عليه الأدعية ويقمن عليه الصلوات، لا يتذكر من هذه اللحظات إلا صدورا منتفخة حرة تسافر دون حدود وشفاها مشققة عليها كدمات متهرئة تتمتم في توسل ووجل. يقبلن عليه في دعة وهدوء، يبللن جبهته ويولولن. لم يدرك عباس أنه قد أصيب بارتجاج في المخ من جراء سقطة البغل. لقد أحدث البغل أكبر نقلة في حياة عباس.

أصبح عنق عباس يبلغ السماء. تطاول رأسه. تجاوز السحب، الآن يشرف عباس على الكواكب. يتحسسها، يشعر كما لو أن أنوار الكواكب تخزن في صدره. لم يعش عباس - قبل اليوم – حالة كهذه. نظر عباس إلى الأرض. تأملها. إنها ليست كرة. أجل إن الأرض ليست كرة ! يؤكد عباس. الأرض كيس من قمامة. الأرض التي نعيش منها كيس كبير من القمامة. أمنا الأرض ليست سوى قمامة. يتمتم عباس. رهبة عارمة تسري في مشاعر عباس. لا يمكن أن تكون في الوجود كذبة أكبر من هذه. يحتاج الإنسان أن يبتعد قليلا عن نفسه حتى تتراءى له الصورة الحقيقية.

تفرس عباس في وجوه الناس. لابد أنهم في الأرض يضعون الأقنعة. لا يمكن أن يكون شكل الإنسان من السماء غير شكله على الأرض.

ومع أن عباسا يدرك اليوم أنه استفاد من رحلة مجانية لم يخطط لها أبدا، بفضل ردسة البغل، فإنه مع ذلك يكره ركوب البغال والحمير وكل مشتقاتها، ويتحاشى المرور في طريقها.

كانت تأتيه هذه الحالة مرتين أو ثلاثا في السنة، لم يكن يعبأ بها أحد، حتى جواريه لم يكن يلاحظن شيئا، سوى أنه كان ينعزل عن الناس يوما أو يومين لا يراه فيهما أحد، فلم يكن هذا الأمر ذا قيمة عند القبيلة، كانوا يعتقدون أنه يرتب لأمر من أمور القبيلة.

في أحد الصباحات الجميلة من شهر أبريل خرج عباس عن صمته. بدا وجهه هذا الصباح أكثر بهاء وتألقا، ترتسم قسمات أمر جلل على محياه، ويشع من عينه إرادة وعزيمة.

- لا يمكن أن يكون هذا هو عباس الذي نعرفه. همست إحدى جواريه لإحداهن.

ولكن عباسا كان يمضي في طريقه يجمع أشراف القبيلة وكبراءها، يبشرهم بنبوءته التي تراءت له. ويشجعهم على الإيمان به.

كانت رسالته واضحة لا تحتاج إلى بيان، من تبعني سيعيش في عوالم الآخرين، يتخلص من عبء المكان والزمان، ويسافر عبرهما إلى عالم الصدق والخلود.

- لا بد أن يكون عباس ممسوسا، أو ذهب عقله. تجمع القبيلة على هذا الأمر. ولم تكن القبيلة في حاجة إلى برهان تستدل به على جنون عباس، كما أنه ليس هناك عاقل يقرأ هذه الرواية فيصدقني.

في اليوم الموالي وجد عباس نفسه خليعا وحيدا في الصحراء. ولولا فراره من القبيلة متخفيا تحت جناح الظلام مع زاد قليل لا يكاد يسد غلالته لهلك بلعنة الآلهة، ولماذا يقتلونني؟ يتحدث عباس في نفسه. لم أكن لأرغم أحدا على اتباعي ولكنهم يجبرونني على أن أعيش في مكان لا أحبه، وطنك هو المكان الذي ترتاح فيه، وقد كنت سعيدا في وطني، بين جواري وأشيائي.

لم يتذكر سردال شيئا من هذه التفاصيل، فقد تأكد أنه لا يعرفه، ولم يسبق لسردال أن التقى بنبي (كم كنت أتمنى أن أجرب شعور الالتقاء بنبي، وأَعْجَبُ لؤلائك الذين كانت لديهم فرصة لقائه فلم يتبعوه، أي نوع من البشر يكونون! قلت في نفسي.) ومع ذلك يصر عباس أنه يعرف سردالا، لا بد أنه قد التقى به في محفل من محافل القبيلة، فليست سحنته غريبة، وملامحه تدل على نبل وعزة نفس، لقد كان عباس واثقا من معرفته. إن معرفته كلها مبنية على ذكرى ردسة البغل، وهي ملاحظة جديرة بالأهمية في التاريخ القديم لارتباط سيرة الإنسان بالذكريات الموغلة في العتاقة.

لم يكن سردال يرى أهمية لمعرفة عباس له، فسواء كان يعرفني حقا أو لا، فهو بالتأكيد قد عرفني الآن، وهذه بحد ذاتها مصيبة أخرى.

ازداد الجو سوءا ، لذلك لم أجد بدا من قضاء الليلة في البيت كنت قد قررت أن أعود إلى مكتبي لأبحث في أوراقي القديمة عن سبب مقنع لوجود عباس وسردال، ولكنني فوجئت بملاحظة صغيرة كتبتها على الغلاف الداخلي لرواية "الغريب" لألبير كامي منذ أكثر من خمسة عشر عام أو يزيد، وهي أن الطاعون يمكن أن يؤسس حضارة معاصرة عظيمة، لم أكن أشك وقتها أن للطاعون مثل هذه القوة السحرية التي تقدم للحضارات ما لا يستطيع العلم أن يقدمه. ومع ذلك فقد بدا لي سببا منطقيا، ففي الغالب لا يمكن لمدعي النبوة الفرار بهذا الشكل، يقاتلون حتى النهاية، لذلك فقد بدا لي أن ملاحظتي السابقة هي الشرارة التي كنت أبحث عنها، فعباس كان يخفي على سردال الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الهروب من القبيلة، لقد هرب بجلده من القبيلة بعد أن عم الطاعون مخافة العدوى، وبما أنه كان يعتبر نفسه بحكم المواهب التي ينفرد بها، فوق الجميع، فقد قرر عدم البقاء ليتخذ نفسه ذخرا للأعمال العظيمة التي سيتولاها بنفسه.

تحكي المصادر التاريخية القديمة ما أصاب أوروبا من ويلات الطاعون، الموت الأسود، وفي ثقافتنا العربية المرض الملعون، ولكن رغم القوة التدميرية لهذا المرض فإنه استطاع أن يوجد لنفسه هامشا كبيرا من الاحترام.

لم يكن عباس يريد أن يتواجد في هذا المكان، وأياًّ يكن السبب فإنه يشعر كما أشعر في هذه اللحظة بالكآبة التي لا تطاق، فقد عدت إلى هوايتي القديمة، أعدُّ عتبات السلالم، وأنواع الأشجار والوجوه في الجامعة: واحد. اثنان. ثلاثة. أربعة.خمسة. ستة.سبعة. ثمانية.تسعة. عشرة، هل تعبت من العد، يمكنك أن تجرب بنفسك! في بعض الأحيان حينما يكون الجو أكثر هدوء، وتكون الطيور أكثر كسلا فإنني أصل في العد إلى التسعة والتسعين وقد أتجاوزها قليلا، حتى تقطع علي تعدادي أصوات الطيور المزعجة أو أصوات الطلبة يتظاهرون في الساحة بسبب لحم العجل المطبوخ في مادة حمضية تُفْقِدُ الوضوء، وعندما تنتهي هذه الموجة أجد نفسي أعود للتعداد من الصفر، لم تكن هذه الحالة تحدث معي إلا حينما أكون في كامل قوتي العقلية، وأكون أكثر تركيزا، لاحظت في الأيام الأولى أنني بمجرد أن أبدأ في عد الأشياء تبدو الأشياء تقترب مني أكثر فأكثر، كانت تبادلني التحية وربما تبتسم أيضا، أحس بدبيبها في مفاصلي، وأصغي لهمسها، حتى أنني أصبحت بارعا في فهم لغة الحجارة ومختلف أنواع الزهور، كانت هذه الطريقة تساعدني كثيرا على الإنصات لنفسي، وكنت كلما تعمقت في نحو هذه اللغة وتراكيبها كلما ازددت جهلا بلغة الآخرين، بطبيعة الحال كنت أتظاهر أمام الجميع بأنني أنصت إليهم في أدب ووقار، والحقيقة أنني كنت لا أرى سوى شفاه تتحرك، وعيون تفتح وتَنْسَدُّ كباب مشرع في الرياح، تماما مثلما هو الحال في السينما الصامتة.

بالنسبة لعباس كان الأمر مختلفا تماما، فقد وجد تابعا مخلصا يبدد عنه العزلة في الصحراء القفر، ويستمع إلى نبوءاته قبل أن يهرب من القبيلة أو يطرد منها، فليس هناك فرق جوهري بين الأمرين ما دامت النتيجة واحدة. انتبهت إلى الساعة كان الطلبة يخرجون من المدرج فلم أدرِ يقيناً هل كانوا يستمعون إلى المحاضرة الطويلة أم كانوا يشفقون لحالي، ولكنني تأكدت أنهم سجلوا المحاضرة كاملة بمصادرها ومراجعها. فضحكت من أعماقي وانصرفتُ.

لو استطاع عباس أن يحصي ذرات الرمل واحدة واحدة، فإن بإمكانه أن يدخل العصر الحديث، تماما مثلما ينفذ الإنسان الحديث إلى عالم استشرافي عندما يبدأ في تعداد عتبات السلالم وأوراق الشجر وتلك المربعات الجبسية البيضاء في سقف المدرجات، إنها عملية تحدث تلقائيا ولا تستطيع أن تفهمها مثلما لم يستطع سردال أن يفهم حقيقة نبوءة عباس.

ذكرتني نبوءة عباس بشخصية روائية جديرة بالاحترام، كان اسمه عبد السلام، رأيته لأول مرة في فاس، حينما كنت طالبا هناك، يرتدي جلابة سوداء هرئة تساقطت أسدالها من فرط ما مر بها من أيام، يجلس في كل مساء بجانب دكان السوسي، ينتظر الداخلين والخارجين إلى الحانوت لعلهم يجودون عليه بما جاد الله عليهم من سقط الدنيا، كانت لحيته الكثة العظيمة وما يترقرق فيها من بق وقمل يضطره لأن يحدث بيديه حركات متسارعة يفرك بها منابت لحيته وأطرافها، ويدلك أعاليها وأسافلها، وقد كان بحق أعجوبة من أعاجيب فاس كما عهدتها.

كان لا يمر يوم إلا ويترك فيه أثرا يبقى لأشهر في حديث الناس، فقد كان في حديثه حكمة مجرب خبر الحياة بكل أصنافها، وذاق من آمالها وآلامها ما الله به عليم، كان إذا سألته عن حاله وكيف أصبح، يحدق في عينيك مليا كأنما يقرأ ما كتب في أحداقك من دهشة وخبث، فيجيبك في ثقة واعتزاز:

ـ منصوب والحمد لله!

ـ هل أكلت اليوم يا عبد السلام؟

ـ إنما يأكلون في بطونهم نارا…

ـ ما الذي تتمناه يا عبد السلام؟

ـ فألقى الشيطان في أمنيته…

ـ هل أنت متزوج يا عبد السلام؟

ـ إن من أبنائكم وأزواجكم عدو لكم…

يعده بعض الناس وليا، وبعضهم مخبرا، وبعضهم مجنونا، ولكنني كنت أعده يومئذ أروع ما جادت به القريحة المغربية، خاصة حينما كنت أنتهي من تلك الدروس المملة التي كانت تلقى علينا، وأنصرف إلى تلك الحجرة المظلمة وأنزوي إلى ركن منها أراجع فصلا من كتاب أو أنهي قراءة ما بدأته البارحة.

لم أكن أعرف مصدر سحر عبد السلام، لعله كان يذكرني بأولئك المفكرين الذين كنت أرى صورهم في الموسوعات المصورة التي كانت تسقط في أيدينا بين الفينة والأخرى ونحن ما نزال في عمر الدراسة، وكانت شخصياتهم تبدو لي غريبة كل الغرابة، شعورهم غير مرتبة، لحاهم كثة بغير تهذيب، كأنك تشم بعر الماعز فيها على بعد أمتار.

تساءلت: لم لا يكون عبد السلام هو عباس في نسخة مطورة؟ ما الذي يمنع من وجود عباس هنا، من الذي يمنع عبد السلام لو ادعى لنفسه نبوءة مفاجئة، أو حتى ولاية تأتيه أثناء تأملاته الطويلة في سبحاته الليلية؟

كنت على يقين تام – على عادتي – أن ثمةَ علاقة ضرورية بين عباس وعبد السلام، قد يكون أحد أجداده القدامى ممن حفظت جيناتهم فتعرضوا للنسخ واللصق تماما مثلما هي الحياة الآن، نسخة مزورة من أسوء جينة ذرية. قدماء المصريين نبهونا إلى إمكانية حفظ الجسد، بينما نبهنا مجموعة من مجانين العلم الحديث إلى إمكانية حفظ كل شيء، يا إلهي! هل يمكن أن تحفظ النبوات أيضا في جينات، هل يمكنني أن أورث سخافاتي وحتى شخصياتي الروائية إلى أحفادي؟ عالم مضحك، طبقات من النسخ واللصق!

ليس البشر إلا نسخة كربونية واحدة تتكرر عبر الزمن، وليست الفروق الطفيفة بين الناس إلا كمسوح الرهبان، ليس ثمة فرق بين ضحكة إنسان ما قبل التاريخ ومدير أكبر شركة معاصرة، ليس هناك فرق بين آلام العصر الحجري وآلام عصر الذرة، يبدو الأمر سخيفا جدا حين نقارن بين نبوءة عباس وقذارة عبد السلام، إنهما من طينة واحدة، ومع ذلك فالأمر يحتاج لكثير من الفكر ليفهم سردال هذه المعاناة.

عاودتني البارحة ليلا حمى الألوان، علينا أن نفكر في ألوان جديدة لإضاءة العالم المظلم، وأن نضيء بشجاعة سراديب النتن، تماما مثلما فعل عبد السلام، ربما نحتاج لكثير من الوقت لفهم أننا لم نفهم شيئا من تاريخنا الطويل العريض، وأن عقلنا الذي وثقنا به كل الثقة، وأعطيناه حق تصريف أمورنا لم يكن سوى غلطة العمر، لم يجلب الاختفاء وراء طقوس الأخلاق سوى التشرد لعبد السلام وقبله كان التعقل سببا في هلاك عباس العبد، وتشريده في زاوية نائية من العقل: يا إلهي كلما ازددت تعقلا في عالم الأشياء كلما ازددت تعاسة في عالم الناس ! أمر مخز أن تبدأ يومك بسب اليوم الماضي! قال سردال.

كان عباس يتذكر بمرارة تلك الأيام، يوم خرج من القبيلة ينشد عالمه الخاص، هاأنذا الآن وحدي كجرذ خارت قواه، لا يمكن أن تكون نبيا وسط جماعة من الشياطين! من فرط سخريتي أن أجد نفسي جنبا إلى جنب معك يا سردال. لم أصنع تاريخي، ولم أختر لحظتي كما أنك لم تصنع تاريخك ولم تختر لحظتك، ولكننا قذفنا إلى هنا قذفا مقذعا، أنت باسم العلم وأنا باسم الدين...ما أتعسنا يا سردال!

في الواقع أنا لا أفهم كثيرا هذا الخطاب، وإذا حدثتني نفسي بالفهم أذكرها بتاريخ الإخفاق الطويل، إخفاق يتجاوز صناعة الفكر إلى تحطيم الذات، لسنا في حاجة إلى مزيد من الإخفاقات.