الجمعة، 12 أغسطس 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 6.

الجزء الأول من هنا.
6-
الفصل الثالث

رفعت السيدة ستائر الغرفة فتسرب إلى الأرجاء قليل من أشعة الشمس الصباحية، لم تكن غرفة كبيرة، فهي تتسع لمكتب صغير عليه حزمة أوراق قديمة، وقلم حبر سائل مغلق بإحكام، وعلى طرف المكتب في الزاوية اليسرى إلى الحائط مزهرية زجاجية كانت السيدة قد وضعت فيها بضعة أزهار بنفسجية. وعلى الجدار المقابل للمكتب الصغير، إطار من خشب قديم يحيط بصورة عابسة لجندي ببزته الرسمية، ترتسم على شفتيه ثلث ابتسامة نكرى، تدل ملامحه على شاب لم يتجاوز العقد الثالث، عندما تنهمك السيدة في الكتابة تخلف الصورة وراءها لتحرسها من خوف أبدي، فقد انتقلت الصورة مع السيدة من منزل إلى آخر طيلة أربعين سنة، ظلت الصورة مسمرة في مكانها في نفس الجهة من الغرفة.

يعم الغرفة هدوء دافئ يتسرب عبر مسامات الجلد بروية فيخلق جوا من المتع الحسية التي لا تقاوم، ولأول وهلة تحس أنك في قطعة نائية من أجزاء الروح، الفوضى الجميلة المنعشة تنساب هادئة في سكون الغرفة كقطعة موسيقية تعزفها الأشياء الصغيرة المبعثرة في كل مكان.

قلت في نفسي: ما أغبى علماء النفس ! يجعلون الإنسان محورا لتأملاتهم النرجسية. مرآةً لإسقاط أمراضهم الضاربة في أعماق التاريخ، وينسون أن مجال علم النفس هو الأشياء. الأشياء الحقيرة التي لا ينتبه إليها أحد. والتي تصرفنا عن جوهرها لكي لا نعكر عذريتها بتأملاتنا الساذجة. تلك الأشياء الصغيرة التي تمدني بفرحة الطفولة!

تتذكر السيدة ذلك اليوم الصيفي حين هم عباس بمغادرة المدينة، حمل أمتعته القليلة ثم غادر. لم تكن الأسرة تمثل له الشيء الكثير، فقد ضيعت فيه الأسرة أهم ما يملك، أفقدته حضن الأم ومنطق الأشياء، ولولا أنه تعلق بالسيدة أكثر من أي شخص آخر ما فكر في العودة إلى المدينة، تتذكر السيدة هذا اليوم بمرارة، فهو يذكرها برائحة الكلاب النافقة بسبب الحر الشديد الذي اجتاح المدينة، يذكرها باختفاء عباس، ظنوه لفترة أنه قد نفق في مكان ما، أو ربما سجن كما في إحدى المرات حينما اتهم بالتقصير في تأدية الواجب. والحق أنه ضُبِطَ يدخن الحشيش في مركز المراقبة.

كان صدى الشاب ذي البزة العسكرية يتردد في أنحاء الغرفة بصمت رهيب منعش، كأنما سرى في الغرفة شذى سحر من تلك اللحظات الجميلة القليلة التي كانت السيدة تنتظرها كلما أقبل موسم حصاد وفير.

نادت السيدة فوصلها في الحال فطورها الصباحي. ارتشفت بضع رشفات من قهوتها ووضعت الكأس مباشرة أمام المزهرية. أخذت السيدة قلم الحبر السائل وبدأت تكتب في إحدى الأوراق. سجلت برنامجها اليومي باهتمام زائد، ولم تنس أن تخصص وقتا مهما لصديقاتها، عادة تبدأ نزهتها الصباحية مباشرة بعد تناول الفطور، يُسمع قرع عصاها وهي تنزل من السلم المؤدي إلى حديقة المنزل، لكن اليوم هو استثناء، فقد حبسها مطر خفيف يظهر ويختفي. لم تكن حالة الاختفاء حدثا عارضا في حياة السيدة، فقد توارثه أبناء العائلة جيلا بعد جيل، فأقرب حدث تذكره السيدة بوضوح ويتسرب إلى نفسها كحزمة من أشعة شمس خافتة هو اختفاء الجد الأكبر ذي الشارب الكبير العريض في طريقه إلى القدس بعد أن أنهى مناسك الحج بالديار المقدسة، تتناقل القرية أخبارا متضاربة بشأنه: بعضهم يرجح أن الجد الأكبر استقر في القدس وتزوج امرأة مقدسية، وبعضهم يؤكد وفاته حتى قبل أن يصل القدسَ، والذين يعرفون شخصية الجد الأكبر يرجحون موته في طريقه إلى القدس، فالجد الأكبر ليس معجبا بالنساء إلى الدرجة التي تجعله يترك القبيلة كلها والحياة كلها ليستقر في مكان بعيد مختلف كل الاختلاف وهو الذي لم يبرح القرية من قبل إلا ما ندر. والواقع أن السيدة – على خلاف الإجماع- ترجح زواجه: "هذا الصنف من الرجال لا يحفظ عهدا. الرجال الصامتون لا يحفظون عهدا". تردد السيدة كلما سُئِلَتْ عن قصة الجد الأكبر.

على أن للسيدة تاريخ طويل مع حوادث الاختفاء، حتى إن الأشياء الصغيرة الكثيرة تختفي من أمام عينيها من وقت لآخر. تختفي الأواني من المطبخ فجأة ولا يبقى لها أثر، وقد كان يحدث في سنوات المجاعات الكبرى أن يختفي الدقيق والسكر في كل ليلة. بقي الأمر على هذا الحال مدة من الزمن. وقد حاولت السيدة – وهي الأم الحريصة على ألا يموت صغارها جوعا- أن تراقب من مكمن قريب هذا الغريب الذي يسرق الطعام والأشياء، لكنها استسلمت في آخر الأمر واطمأنت إلى هذه الروح الغريبة التي تقاسمها الفاقة وقلة الحاجة، وعدتها فردا من العائلة، الجفاف والجوع لا يضمران البطون وحدها بل يهدان النفوس أيضا، يحولان القلوب الراضية المطمئنة إلى وحوش كاسرة قذرة، وَلَشُدَّ ما عرفت السيدة أن حراس البيت وساكنيه من الأرواح الأخرى قد تأذت من هذا الشر، فأصبحت تترك بعضا من الطعام وقليلا من جلود الدجاج في المطبخ المشرع على السماء قرب كانون صغير متفحم، ثم تعود إلى خبائها تنام مطمئنة الروح هادئة الروع كأنما نفضت عن نفسها تأنيب الضمير ووخز السنوات.

لقد تحققت من الأمر ولم تعد تشك في قناعتها بشأن اختفاء عباس، الواقع أنه لم يمت في حرب الصحراء المقدسة كما تصر على ذلك الروايات المتواترة، فليس هناك دليل يؤكد وفاته: ليس هناك جثة أو بقايا رفات، وإنما كل ما هنالك أنه لم يعد إلى المركز كما عاد بقية الجنود بعد إنهاء مهماتهم. لقد اختفى عباس فجأة دون أن يحس به أحد. أحد أصدقائه القدامى يؤكد بمرارة ويقين أن عباسا قد رُفع. " المسكين، لقد رُفع ! " بقي سر اختفائه غامضا عشرين سنة كاملة، حتى كلمني سردال ذلك الصباح على مائدة الإفطار ليعيد فتح جرح قديم اندمل أو كاد، لتقادم العهد وطول الانتظار، أما السيدة فلم تكن تشك في يوم من الأيام أنه حي يرزق، وأن حديث الناس عن اختفائه ليس سوى لقصر أفهامهم في تناول أسرار عائلية لا يدركون غايتها أو سر حدوثها. الحقيقة أن السيدة كانت بارعة في القياس، فقد أدركت بحدسها أن اختفاء عباس مدة من الزمن طالت أم قصرت لا تعني بالضرورة أنه قد مات. اختفاء الإنسان كاختفاء الأشياء. لا شيء يميز هذا عن ذاك. تدرك السيدة تمام الإدراك أن أشياءها الصغيرة كانت تظهر في أماكنها المعهودة بعد فترة من اختفائها. آخر شيء ظهر قبل أسبوعين تماما. أسطوانة قديمة من الألمنيوم كانت السيدة قد أخذتها من مخلفات الجنود الأمريكيين (في ما يعرف بعام مِريكانْ) واستعملتها لجمع الأغراض الصغيرة كالأزرار المهملة وبكرات الخيط والإبر وأشكال من الدبابيس الصدئة تعود إليها من حين لآخر. وجدتها في مكانها الذي اختفت منه، لم تستغرب الأمر فقد تعودت حصول ما هو أغرب من اختفاء هذه المهملات الصغيرة. فقد اختفى اللحم من القدر فجأة وحل محله قطعة قماش كبيرة ظلت تطبخ مع قليل من البطاطس والفاصوليا ساعة أو يزيد، ولولا سمك القماش وقسوته لذابَ مع الإدام، ولما حان العشاء نظر بعضهم إلى بعض فأشارت السيدة إلى الجميع أن يصمتوا ويسلموا لأصحاب المكان. فربما اشتد بهم الجوع فمروا بالقرب فاشتموا رائحة اللحم فأخذوه. والواقع أن أصحاب المكان ما كانوا ليأخذوا اللحم ويتركوا البطاطس والفاصوليا والإدام. والواقع أيضا أن أصحاب المكان هُما عباس وسردال. ظلت السيدة ترقب السماء نحو نصف ساعة حتى تتأكد من رحيل المطر. السماء ضرع لا ينضب. السماء سهام من المياه تمرق وتنسحب.كلما همت السيدة بالخروج تراجعت فاحتمت بسقيفة البيت، حتى إذا انقطع المطر وعزمت السيدة على الخروج برقت السماء من جديد فأفسدت عليها عزمها فتراجعت مرة أخرى. أرض موحلة وأوراق أشجار متفسخةٌ. يظهر الأفق البعيد شاحبا فقدَ امتداده. آثار أقدام كئيبة مغروزة في الصلصال المشبع بالماء، كوليد استقبلته الحياة بعملية قيصرية، الأنين في كل مكان. الأقدام الموحلة تنغرس في طبقات الطين كقارب قابع في بحيرة متجمدة. لقد مرَّ عباس من هنا. لقد عاد. وانتشت السيدة بالذكرى. استغرقت في حلم لذيذ. أحست بالدفء يطرد الصقيع من أنحاء جسمها المترهل. وقد بقيت على هذا الحال مدة من الزمن حتى ظنت بها الظنون. فقد كانت تتفقد قبر سردال الفارغ مرة بعد أخرى، تتحسس ما به من أسمال بدَّدَ نسيجها الزمن، رائحة الملابس والعرق المتجمد، ولو قدر للتاريخ أن يسجل تاريخ الروائح كما يسجل تاريخ السفهاء لتبدى العالم مختلفا، والماضي مختلفا، ولكانت حقيقة الإنسان غير التي نعرفها الآن. إن تاريخ الرائحة لا يمكنها أن تخطيء في صياغة التاريخ. فهي البصمة التي يجهد الإنسان في إخفائها عن مسرح الأحداث لوعيه التام بنتانتها البغيضة، لكن الرائحةَ التي كانتْ السيدة تسترجع بها الماضي كانت رائحة مختلفة...

الأحد، 10 يوليو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 5.

الجزء الأول من هنا.
5-
الفصل الثاني

1- نمت كجيفة عفنة. رأيت جدتي التي ماتت قبل عشر سنوات، وعمتي التي ما زالت على قيد الحياة وبينهما نهر عظيم جارٍ، يترقرق ماؤه عذبا طريا كأنه زجاج ذائب. استفقت من نومي في الثانية صباحا، كانت الريح تعصف بقوة ويسمع صوتها على جنبات النوافذ، الأشجار تئن طربا كأنها تلد. لم أجد شيئا أفعله. فتحت قناة الجزيرة. مازالت غزة تئن. للأنين صوت أسد هزيل اعتزل ليموت وحيدا بشرف. سماء غزة مظلمة. شوارع غزة مقبرة لتجارب عقل فقد كل قيم الحياة، عقل متوحش تعرى أمام نفسه في المرآة. فشل إنساني فظيع. نفاق سياسي بغيض. لم يعد أحد يثق منذ اليوم في عقل متوحش فقد مشروعية وجوده. انتحر العقل والإنسان في مزبلة الحرب.
[ لن نفتح المعابر حتى لا نعطي الإسرائيليين فرصة تقسيم فلسطين بين الضفة والقطاع. لن نخرق معاهدة 2005.]
 (قصاصة من يومية عربية وجدتها عند بائع كران في وجدة)


يظنون أننا سنصدقهم، يظنون أنهم يتحدثون إلى شعب مغفل لا عقل له!
2- هم يعرفون أننا نصدقهم، لأنهم صنعونا على مقاس أحذيتهم وعلى استدارة رابطات أعناقهم. نحن نعرف أنهم يكذبون ومع ذلك نصدقهم. إنها معادلة لا يمكن أن يفهمها عاقل. الفلسطينيون، هؤلاء الرجال قد فضحونا، قد عرونا تماما. كشفوا نفاقنا وتخاذلنا. بأي وجه ننظر إلى أطفالنا ونسائنا، مرغوا وجوهنا في التراب قبل أن يمرغوا أنوف الصهاينة في خراء الخنازير. هؤلاء الأبطال كتبوا التاريخ بدلا عنا نحن "القاعدون المتحصنون" خلف نفاقنا. تذكرت قاعدة الاختصاص في النحو العربي القديم، وكيف يحرص عليها هؤلاء الأعراب المخنثون أكثر مما يحرصون على شرف أمهاتهم وبناتهم، يتشدقون بها ملء أفواههم ليعلم المستمع أنهم أكثر الناس صونا لفروع اللغة وأصولها، قلتُ: تزدهر البلاغة حينما تموت المواقف، تماما مثلما نقدم باقة من الورد أثناء عيادة المريض.
3- بقيت في فراشي ما يزيد على نصف ساعة أحدق في السقف، كان هناك نهر يجري بين خطوط الجبس المتعرجة كثعبان أملس، الصراصير تسبح في النهر بزعانف كأنها أشرعة سفن قديمة. تتناسل الصراصير بسرعة جنونية. تنقسم كالخلايا السرطانية محدثة جلبة ما يزال طنينها في أذنيَّ. الناس يبتلعون الصراصير بلذة عارمة. كانت جدتي تحاول أن تتجاوز النهر، تجاوزته بسرعة وكانت الصراصير ما تزال تلاحقها، كلما اقتربَتْ منها تناسلت أكثر. أحسست بيدٍ تمتد نحوي، سوداءُ يُغطيها زغبٌ قذرٌ، وعلى مرمى البصر ثلجٌ كأنه عِهنٌ غير منفوش، كان عباس العبد يحاول أن يصل إلى المكان، المكان يظهر ويختفي، أصبحتُ أنا هو المكان الوحيد في هذه الصحراء الممتدة بلا رحمة. كان صوت عباس يأتي متقطعا بينما كانت جدتي تواصل المسير إلى شجرة أو شيء كالشجرة معلق في الفراغ، لعلها "خروبة" كبيرة أو "صفصافة" صغيرة، كانت الصراصير تحوم حولها، محدثة موسيقى باردة.
4- استفقت على وقع أقدام عباس يخبرني بضرورة التحرك سريعا، ربما كان في نيته أن يتابع دعوته إلى القبائل التي لم يصلها أحد من قبل.
- استعد يا سيد «س» سنغادر بعد القصف الأول.
لم أكلف نفسي عنت الرد، ولا حتى مجرد التساؤل عن الوجهة الجديدة التي سنسلكها، من عادة الأنبياء ألا يُسألوا عما يخططون له، ومن عادة المؤمنين ألا يَسألوا عن أشياء إن تُبدَ لهم تسؤهم. الامتثال المطلق إيمان مطلق. المواطنة الكاملة هي الامتثال الكامل. لقد نسي عباس حتى اسمي، أنا بالنسبة له لست سوى صوت لا أصل له، مجرد حرف جبان لا معنى له. تذكرت لوحة مذهبة مرصعة بحروف متطايرة كأنها نحل شارد، عُلقت بإحكام في صالة الانتظار عند طبيب الأسنان. للحرف هناك قيمة جمالية تضاهي الإعجاز، أما أنا فلا معنى لاسمي. "استعد يا سيد « س »"، لقد سماني أبي سردالا، وسماني هو "س" لقد كان لاسمي معنى مع الأشياء، أما الآن فقد أصبحت الأشياء أكثر عمقا مني، ليتني كنت فنجان قهوة أو حتى [فِ]رْيَة ([1]) في جوف تاريخ عظيم، أنا الآن لا شيء، مجرد صوت بلا روح ولا معنى. الأشياءُ، تلك الموجودات المستفزة الهامدة تصنع حضارتنا المعاصرة، تؤثث نفوسنا الموحلة، الموغلة في تاريخ الفوضى. الأشياء الصغيرة تحكم العالم الكبير. لكن، قلت في نفسي: من أين تستمد الأشياء الصغيرة سلطتها؟ وهؤلاء الذين سيلتقي بهم عباس، وهو يراهن على أنهم سيذعنون لمشيئته، أي سلطة تقودهم ليسلموا له أرواحهم وقلوبهم المفعمة بالفوضى؟ إنها سلطة الأشياء الصغيرة، الأشياء التي تحيط عوالمنا الداخلية بضوضائها التي لا تنتهي، والتي تفصلنا عن جوهرنا، وتحول بيننا وبين الاستماع إلى موسيقى ذواتنا المهجورة، تتحكم في مصائرنا كأنها قَدَرٌ جديد يسلبنا الإرادة.
«5- لحظة أولى:
المكان: مقهى لوازيس بوجدة.
الزمان: الأحد 08/02/2009، الساعة 11و 31 دقيقة صباحا.
الإيقاع: تماهٍ بين كأس أبيض هو خلاصة ما وصلت إليه الحضارات القديمة، ومجموعة من ثلاث كتب وجريدة يوم الجمعة الفائت. الكأس يحتضن القهوة بحنان أموميٍّ، وبين الكتب الثلاث تيارات جارفة متبادلة من العشق السماوي، وإيقاع موسيقي يخترق حجب التاريخ المظلم وأسيجة المستقبل المرعب.
رَنَّ أحدُ الهواتف النَّقالة، رن بصوت منكرٍ مزعج، وقف الناس جميعا يتحسسون جيوبهم، ومناطق أخرى من أجسادهم، كل واحد منهم يظن أن هاتفه الخلويَّ هو الذي يرن في جيبه. ما أحدثه الهاتف النقال لا يمكن أن يحدثه صوت المؤذن ينادي الناس لبلوغ السماء.
قلتُ: لو أن "فرقعة" مدوية خرجت من تحت سروال أحدهم، هل كانوا يتفقدون مؤخراتهم بحثا عن مصدر الفرقعة؟ لا شك أنهم لن يقفوا، لأن كل واحد منهم يعتقد في أعماق نفسه أنه أطهر الناس جميعا، وأن الآخرين هم أكثر قذارة.»
«6- لحظة ثانية:
الزمان: 13/09/1999، العاشرة و سبع دقائق مساءً.
المكان: أحد فنادق إنزكان قرب محطة الحافلات.
الإيقاع: أشجار الشارع الكبير تلعن ضجيج السيارات، تسعلُ بعمق فتتأرجح ذات اليمين وذات اليسار محدثة تيارا ت من الدخان المتصاعد من مواقد الشواء حول المطاعم المنتشرة بلا معنى.
في نقطة تجمع الطرق، على مقربة من الفندق، أمام لوحة إشهارية كبيرة تعلن عن منتج جديد من الهواتف النقالة، جلس أحد المتسولين ليفرغ ما بجسده من سوائل النهار، وما جمعه في بطنه من رواسب المتصدقين.
قلت: أيهما أكثر وعيا وأعظم إدراكا لجواهر الأشياء، المجانين أم أولئك الذين يدَّعون التعقل أمام الأشياء؟ أليس ما فعله هذا المتسول هو خلاصة تجارب الإنسانية كلها منذ أن بدأ الإنسان في التفكير، كل أشكال التعقل الرصينة لا بد أن توصلنا إلى هذا الموقف العميق الذي صدر من هذا الرجل. لقد فعل ما لم نستطع نحن أن نفعله، لقد جعلني أشعر بالخجل أمام تعقلي الأحمق.»
«7- لحظة ثالثة:
الإيقاع: الأشياء المحيطة بالإنسان والحيوان تكاد تنصهر من الحر، الأدمغة تغلي ورائحة الزفت تتصاعد من الطريق المشققة، التي كأنها لسان كلب مسعور، الطيور هجرت السماء، ليس هناك نسمة هواء واحدة. تحس أن وجوه البشر ليست سوى قطع فحم بللها المطر.
الزمان: الجمعة 13/06/1986. بين الثانية والثالثة مساءً.
المكان: أمام بوابة ثكنة القوات المساعدة، في طريق ملعب الكرة المستطيلة بوجدة.
تركني أبي هناك أستظل تحت الشجرة الكبيرة التي غرسها المستعمر الفرنسي مشكورا، بعد لحظات خرج أحد الأطفال من الثكنة على دراجة هوائية ثلاثية العجلات، زرقاء اللون مع حمرة بادية في الخلف، حاول الطفل أن ينزل بدراجته الرصيف الصخري. سقط الطفل من الدراجة على وجهه. جُرح الطفل جرحا صغيرا على خده. اجتمع رجال القوات المساعدة، بعضهم يمسح وجه الطفل. وبعضهم ذهب مسرعا لجلب بعض الضمادات.
أما رجل آخر فجاء مسرعا نحوي، وكنت ما أزال أنتظر عودة أبي تحت الشجرة الكبيرة التي لم نغرسها نحن، صفعني الرجل صفعة شديدة على خدي، وأدخلني الثكنة العسكرية. وسمعته يقول لأحدهم هذا هو الكلب ابن الزانية الذي دفع الطفل فسقط. ولما أكد له حارس الباب أنني بريء من إسقاط الطفل. قال لي يا ابن الزانية صفعتك حتى تصبح رجلا!
قلت:تأكدت منذ تلك اللحظة وأنا طفل صغير، أنه لم يصنع مني رجلا، وإنما صنع مني وحشاً، وأقسمت حينها أنه لو أتيحت لي فرصة قتله ما ترددت لحظة واحدة. لما سمعت بوفاته الطبيعية حمدت الله وغفرتُ له إكراما لذلك الرجل الذي شهد ببراءتي.»
«8- لحظة رابعة:
الإيقاع: الناس مثل الحجر لولا أنهم يتكلمون، يشكلون مع ساحة السوق الكبير إطارا لسخافات لا تنتهي. النساء ملثمات من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، لا ترى منهن سوى حركات الرأس وعين واحدة سوداء تتحرك ذات اليمين وذات الشمال، تتراقص تحت اللثام كأنها جانٌّ، يتكئن إلى جدار المستوصف الذي يشبه معتقلا للخوف، مباشرة أمام واجهة مربط الحمير والبغال.
المكان: السوق الأسبوعي في قرية عين الصفاء 34 كلم غرب مدينة وجدة.
الزمان: صباح يوم سبت في شهر رمضان عام 1978.
كان عمره لا يزيد عن ست سنوات، اصطحبته جدته إلى السوق، وكانت الأخبار قد تسربت إلى القرية بأن هناك من يختطف الأطفال، ترسخ في ذهنه أن هناك من يسرق الأطفال، وبما أنه طفل فإن المسألة تعنيه. في الرحبة المخصصة لبيع اللوز، ناداه رجل كَرِشٌ واختاره من بين جميع المارين، أن يتذوق له نوعين من اللوز، لعل الرجل كان يريد التمييز بين اللوز المر واللوز الحلو، تذكر الطفل ذو الست سنوات قصص خطف الأطفال التي كانت تتردد في القرية، نظر من حوله فرأى الرجل الكرش ما يزال مصرا على طلبه، تفرس في الوجوه حواليه: لابد أن يكون كل هؤلاء لصوص أطفال، انتفض من يد جدته وهرب مسرعا باكيا يختبئ بين الناس في السوق الكبير أمام دهشة الجميع، الناس يلاحقونه ليعرفوا ما أصابه وهو يجري وينادي: اللصوص اللصوص، أنقذوني أنقذوني.
قلتُ: لقد تعلمت الدهشة ممزوجة بخوف أسطوري من الوجود: الدهشة أمام الأشياء والمواقف هي بداية التعلم المباشر، والخوف هو صمام الأمان لكي لا تقع الذات المندهشة في الخطأ. لقد أدركت في ما بعد أن الدهشة هي التي دفعت سردالا ليؤمن بنبوءة عباس تماما مثلما كانت الدهشة سببا في احترامي لعبد السلام، ولكن مع ذالك أعترف أنني لم أستطع إلى الآن أن أفهم الآلية التي تتم بها هذه العملية السحرية الرائعة: أي كيف يمكن للدهشة أمام الأشياء أن تعطيك قوة لتفسير عوالم لا تدرك بالحواس المباشرة. الدهشة قادتني مرة أخرى إلى اكتشاف عظيم ينصهر فيه الزمان والمكان، في لحظة إيقاعية جديرة بالتأمل، عندئذ أدركت أنني قد خسرتُ ذاتي إلى الأبد. »
«9- لحظة خامسة:
المكان: في غرفة مكتبي، الآي ماك (iMac) مفتوح على النسخة السابعة من هذه الرواية. (حتى لم أعد أعرف الناسخ من المنسوخ.)
الإيقاع: الأشياء الصغيرة تحيط بي من كل جانب، تغمرني إيقاعاتها البطيئة بلحظات من الأسى. العمر الافتراضي لهذه الأشياء الصغيرة - بكل المقاييس- أكثر من عمري. أكاد أقبض على هذه اللحظات بأصابعي. أكاد أخنقها بزفراتي. إنها لحظات تتطاير شراراتها في الغرفة على غير نظام، تخرج من الغرفة إلى العالم الخارجي دون أثر للرجوع. تتصرم من بين أناملي باستخفاف ظاهر كأنها تتحكم في رقاب البشر. أي نوع من البشر نحن؟ إنني أراها ترسم دوائر متداخلة على سقف الغرفة. ثم تغادر.
الزمان: الأربعاء 11/02/2009
"أم كلثوم تغني" "سلوا قلبي" وأنا أحاول أن أقبض على هذه اللحظات المتطايرة في الغرفة. كلما حاولت أن أصف لحظة من اللحظات، أصبحَتْ جزءا من الماضي. الماضي بئر عميق. مقبرة للحظات المنتشرة بلا نظام في سجل لا أبعاد له. لا فرق بين التاريخ والمقبرة: التاريخ هو مزبلة اللحظات الزمنية، والمقبرة هي مزبلة المادة المتحللة. ومن الغريب أن يعيش الإنسان بين مزبلتين مرفوع الرأس بلا خجل أو حياء...»
قلتُ: لهذا السبب يحاول العقل أن يخدعنا. لا يجسد تاريخ الفكر إلا سلبيات العقل وقصوره، ولم يكن العقل في يوم من الأيام حارسا أمينا للمعرفة الإنسانية، وكلما ازداد اعتقادي في أهمية العقل كلما ازدادت شكوكي حول القيم نفسها، الإنسان الشعبي أكثر سعادة من المفكر، يا إلهي! كلما ازددت تعقلا في إدراك الأشياء كلما ازدادت تعاستي، فأين العقل المرح ؟
وقلتُ أيضا: تلك العصافير تدغدغ مؤخرة رأسي، قليل من النمل في أخمص قدمي اليمنى، لا تتبين عيني اليمنى ما تراه عيني اليسرى، الكثير من الهذيان يسبب لي الملل، لكنني أتبين بوضوح أضواء المدينة بعيدة كشموع تحترق، من يدري ربما ينتهي العقل أخيرا بانتهاء المدينة.
«10- لحظة سادسة:
الزمان: اليوم السابع والثلاثون من شهر حُزَعْبِقالْ، يومان بعد الموجة الأولى.
الإيقاع: الناس يسيرون بحركات غريبة، كل شيء يبدو أمامي معكوسا، سيارات الأجرة الطويلة جدا، تسير بلا عجلات إلى الخلف على مقربة من أرض سوداء عليها أثر حريق قريب، الناس يعبرون الطرق بالمقلوب، كلما أردتُ أن أقترب من أحدهم أحسُّ أنه يبتعدُ عني بمسافة. لا تصدر من الأشجار أية موسيقى. لم أعد أسمع موسيقى الأشجار، ولم أعد أشتم رائحة الصوت. أرى شفاها تتحرك. نساء عاريات تماما لكن لا عورة لهن، ورجال كساهم الشعر الأسود العنيف كأنهم قرود بشرية.
المكان: في مكان ما يشبه "وجدة". لم أعد أتذكر التفاصيل. لكنني متأكد أن المكان هو وجدة، والدليل هو أن ساعة البلدية، والصومعة الطويلة الممتدة، لم يبرحا مكانهما، مع فارق بسيط هو أن ساعة البلدية قد استحالت إلى سطل ماء كبير، كأنه حوض سَقْيٍ أو شيءٌ يُشْبِهُ قبعة كبيرة من خشب. كتب تحتها بخط عريض: "إننا نعيش كالآلهة ونموت كالبهائم".
لم أتعرف على أحد ممن كنت أعرفهم، لكن عباسا كان يمسك بجريدة تتطاير منها الحروف، كأنها سرب نحل جامح، يحاول عباس أن يُثَبِّتَ الحروف الهاربة على الصفحة بِريقِ لسانه، وهي نفس الحركة التي كنت أراها في مصلحة البريد عندما أكلف نفسي بإرسال مقالاتي إلى كبرى المجلات العربية ولا ينشرها أحد، لكن كلما ثَبَّت عباس حرفا انسَلَّتْ من تحت أصابعه حروف أخرى. تتناسل الحروف كخلية سرطانية. ترفسها الأرجل في الممرات الضيقة. أسمع حسيسها كأنه حشرجة هواء يُحْتضَرُ. عباس يجري وراء الحروف يطاردها. يتوسل إلى المارة أن يساعدوه على التقاطها، تمر أمام أنوفهم لكنهم لا يرونها. تستقر في رئاتهم لكنهم لا يحسون بدبيبها. تخدش ما بين صماخ آذانهم لكنهم لا يسمعون موسيقاها.
قُلْتُ: آلهةٌ في الصَّباحِ، بَهائِمُ في الليلِ، لم يعد باستطاعتنا أن نسيطر على ذَواتنا. الإنسانُ، ذلك المقدسُ يندثر من الوجود بسرعة جنونية. يتلاشى أمام أعيننا دون أن نعيَ مصيره المحتوم، تتناسل مخلوقات جديدة غريبة تشبه جسدَ إنسان. لها صوت إنسان، حركة إنسان ، لون إنسان ، لكن وسْط هذه الدوامة التي لا تنتهي يغيب الإنسان ويبقى الصوت والحركة واللون.»
هل يمكن لهذه المخلوقات أن تفهم نبوءتي؟ تساءل عباس في شك يشبه اليقين وانزوى إلى ركن مغبر في طرف الشارع الكبير، تحت الساعة التي كأنها سطل ماء، وكانت الحروف ما تزال تنط من الجريدة مبتعدة في دوائر نحو الأعلى. أما عباس فكان يتابعها بابتسامة علمية اخترقت حدود المكان.
11-كنت ما أزال منهمكا في قراءاتي حول طرق تجارة التوابل في الصين القديمة، وفي الوقت نفسه برمَجتُ كتابين جديدين أقرأ منهما كل مساء بعد المغرب، وكان قصدي أن أجد عباسا في إحدى هذه الطرق الكثيرة الموغلة في الذاكرة، وبينما كنت أتلمس طريقا للمعرفة، وجدت نفسي وجها لوجه مع بعض الأشياء التي تركها عباس في إحدى الذاكرات القديمة الصدئة، وقد يكون غيَّرَها بعد تلف أصابها، قضيت وقتا طويلا أرمم بعض الأحداث من ذاكرة عباس حتى أحسست بدماغي يسيل من أذنيَّ، وما أثارني حقا هو أن الأحداث نفسها إذا رُممت تحولت إلى شيء آخر مختلف، عند ذاك تذكرت أنني بصدد كتابة رواية، وأن دماغي يحتاج إلى الكثير من الرائحة.
أخذت حماما ساخنا مدة نصف ساعة، ارتديتُ ملابسي. حلقت ذقني حتى أصبح وجهي أبلقَ براقا. مشطت شعري جيدا على غير عادتي، ارتديت بعد ذلك قميصا أسودَ تعتليه خطوط عمودية بيضاء. أحكمْت وضع رابطة عنق سوداء منمقة بورود صغيرة حمراء، أهدتها لي أمي بمناسبة حصولي على درجة الدكتوراه ([2]).
- أين أنت ذاهب يا أبي؟ سألني أيوب مندهشا.
- سأنام. قلتُ.
نظر إلي ابني وقد زالت الدهشة قائلا:
- لا تنس يا أبي أن تلبس حذاءكَ! قالها بصوت واثق رخيم. فتأكد لي أن أيوب هو من سيخلفني على عرش التفلسف المرح.
لم أعد قادرا على تطوير هذه الرواية، الشخصيات الرئيسية التي عجنتها بيديَّ تتمرد عليَّ، أصبحت تتحكم في مصيري، توجهني إلى مسارات متعرجة ما كنت أريد أن أقترب منها، يا إلهي من يكتبُ الآخرَ؟ من يخطط على الورق ويقضي الساعات يرسم الوجوه والهمسات والعيون؟ إنني أشعر برعب حقيقي لا يمكنني تصوره إزاء الكتابة اللعينة، أصبحت تمتلكني، تسجنني في أحشائها، الحروف المتطايرة أمام عيني تحجب عني رؤية الأفق القريب. أنني أذوب في عشقها الأبدي، ولكنها تتخذ مسوح الرهبان لتمنع عني أسرارها الملتهبة. الأمكنة والأزمنة سجون أبدية تعمق جرح النفوس التواقة للحرية، لا يمكنك أن تتصور ألم الرعب ممزوجا بالحرية، فَتَحْتَ سقفِ الكتابة وحدها يتعايش الرعب ممزوجا بحُرية وهمية.
الحرية ! أجل الحرية ! في الواقع علينا أن نشكر الجلادين، ونصنع لهم تماثيل ذهبية. فقد علمونا معنى الحرية. ولأننا لا نستطيع أن نرى الأفق بوضوح ترانا نلعنهم في أسرارنا لكننا في أعماقنا ندين لهم بأعز ما فينا: الشعلة التواقة لمعانقة الزهور.
12- قلت في نفسي: الرواية نبوءة بدون تعاليم تطمس هويتها. نبوءة حرة كزهرة تميس في حقول القمح مشبعة بندى الصباح. إنها جمال فطري لم تعد أنوفنا المتخمة برائحة أجسادنا تستطيع أن تتذوقه.
لم أكن أريد أن أملي على شخصياتي ما ينبغي عليها أن تقوم به رغم أنني كنت أعلم علم اليقين أنها تتمرد عليَّ. كنت أريدها أن تكون حرة تقهر إرادتي، لكنها حسنا فَعَلَتْ حينما اضطرتني إلى أن أعيد مخططاتي.
الحقيقة الأسمى التي قدمتها الرواية لي هي أنها جعلتني أكتب تاريخي المعجون برائحة القذارة، وإني لأعجب أشد العجب لأولئك الروائيين الذين يكتبون رواية منظمة منطقية الأحداث. إنهم يقترفون جرما كبيرا لأنهم يشوهون صورة الواقع والحياة، فالنظام الذي نراه في الحياة والكون ليس سوى انعكاس عقولنا المنظمة.
- العقول المنظمة لا تحكم العالم. قال عباس.
- العالم يحكم العقل. قلت بخبث، وفي ذاكرتي ترتسم سنون من القحط الموروث من أعماق تخلف قبيلتي التي لم يتبق لها من مفردات العزة والنخوة والشهامة الزائفة إلا منحوتات هرئة متآكلة.
- لقد سقط التمثال. قال سردال.
- لقد سقطنا. قلتُ. واختبأت في أعماق ذاكرتي. في اللحظة التي كان فيها عباس يشق طريقه نحو منعرجات غيبوبة غير مفهومة يبشرُ الناس بحياة جديدة، ومتعة تأمل الأشياء الصغيرة التي لا يكاد الواحد منا أن يبصرها، بل يتعثر فيها ويلعن الطريق. أما سردال فاختفى من أمامي كسحابة صيفية.
هممت بالخروج إلى الكلية. امتطيت دراجتي الهوائية نصف المحطمة، يسمع أزيزها كقطار منطلق. أحكمت شدَّ محفظتي الجلدية السوداء المصنوعة من جلد بغل نافق على الحامل الحديدي البارد. وما هي إلا نصف ساعة حتى كنت أتصبب عرقا ككلب يلهث في عز الصيف. لكنني لا أتذكر سعادة كتلك التي كنت أحس بها وأنا أستمتع بالمحاضرات المملة التي كانت تلقى في مدرجات الجامعة. ثم فكرت وقلتُ: هاهي ذي الجيفة العفة قد استحالتْ إلى شيء يشبه أريج أزهار مبللة بماء مقطر. ثم بعد مدة أحسست بصديقي عمر يوقظني من غفوتي: استيقظ انتهت المحاضرة. ثم تقاذفتني العيون بنظرات حادة ساخرة. لكن أكثر ما ساءني هو خشيتي من أن يمتد شخيري في المدرج إلى مسامع الجميع. حتى طمأنني عمر بأنه لم يبدر مني أي صوتٍ. لا المندوبة ولا المكروهةِ. فحمدتُ الله وانصرفنا.

==================
[1] - في النسخة الأصلية : ...رْيَةٍ، الحرف الأول في حالة شرود ذهني، وقد اجتهدت في طلب المراد، فقلت: لعله يقصد فِرية بمعنى كذبة أو قرية ولا أخفي على القارئ الكريم أنني رجحت أول الأمر خَرية، لكنني عدلت عنها لأنه لا يجوز للروائي ما يجوز للشاعر كما يجوز للفقيه ما لا يجوز لغيره.
[2] - بلغني من مصدر موثوق أن عباسا لما أخذ درجة الدكتوراه تقدم منه أحد الأساتذة فسأله عن مشاريعه العلمية المستقبلية. فكان جوابه أن أهم مشروع يفكر فيه هو أن يعرض نفسه على طبيب نفسي.

الجمعة، 3 يونيو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 4.

الجزء الأول من هنا.
الجزء الثاني من هنا.
الجزء الثالث من هنا

4- "أتصور تاريخا طويلا يحمل ذيلا طويلا من أذيال الخيبة الطويلة"، ومع أنني أدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الحياة الفكرية يجب أن ترقى إلى درجة تحطيم الذات فإنني في الوقت نفسه أدرك أن العقل الذي ندافع عنه لا يمكنه أن يتحقق في حياتنا القصيرة إلا إذا فهمنا فلسفة عباس العبد وإشاراته الرائعة، ولن يتحقق هذا الحلم إلا بتحطيم الذات. مجرد فهم الأشياء لا يوحي بشيء ذي أهمية عقلية، ولكن الأهم أن نصنع من هذا الفهم مسافة تبعدنا عن الانصهار في أعماق الإخفاق.

تركت سردال في تلك الليلة يبحث عن مخرج لورطته مع عباس، لم يكن أمره يهمني كثيرا، لقد انقطعت الصلة بيني وبينه عندما هممت بإلقاء محاضرة في فلسفة الشعر، وكم كنت سعيدا ومحظوظا آنذاك لأن لا أحد كان يفهم ما أقول، وكنت ألحظ على وجوه المستمعين دهشة طفولتي الأولى وهم يحاولون أن يعيشوا لحظات لم توفرها لهم أجواء المدينة التي تحفل بكل شيء سوى الإحساس بالشعر، ولم يكن يساورني أدنى شك في أنني كنت مزدوج الديانة ولم أكن موحدا، فقد كان الشعر دينا ثانيا لي، تماما كحالة متصوف في أيامه الأخيرة، ومن غريب الصدف أن أكثر من كانوا معجبين بعبقريتي الطفولية آنذاك أصبحوا في ما بعد – في فترة التعقل- من أشد الناس عداوة لي، ولست أفهم لحد الآن سر هذا التعارض بين بساطة الطفولة الأولى وتعقل الكبار حتى عندما اشتد عودي وهجرت الشعر، ولعل هذا السبب هو الذي غير حياتي الشعورية في دراساتي الجامعية، فلم أكن أستطيع التوفيق بين سحر الشعر وعداوة المقربين، أن يكون الشعر مهمة حياتك يعني أن تعيش في عزلة بعيدا عن الناس، ولذلك جعلت الشعر ينزوي في زاوية بعيدة عن أوجه الغرباء، وكان المتنبي وأبو العلاء المعري هما رفيقَيْ هذه العزلة الاختيارية.

لم يكن عباس العبد أكثر عزلة مني، فكلانا كان يفكر في نبوءة تأتي أو لا تأتي، وكلانا كان يدرك أن النبوءات لا يمكنها أن تنجح في مجتمع الشياطين، مجتمع يهيمن فيه الغموض على أشعة الشمس، كل ما تستطيع أن تفعله هو أن توطد نفسك على الرحيل منذ اليوم، قال عباس العبد موجها عينين ثاقبتين إلى سردال وهو يفكر في العودة إلى موطنه.

لكن أين الوطن؟ هنا أشعر بحرية أكثر، حتى أدق خصلات شعري تحس بهبة نسيم لم أحس به طوال حياتي. قال سردال بكثير من الأسى.

ليس للوطن حدود، الحدود تصنعها الكراهية، وتنفذها العقيدة. قال عباس. حتى حدود الجسد لا يمكنها أن تحد رغبتي في ركوب الأمواج، ولا يمكن للزمن أن يكون عقبة في طريق إشباع رغبتي في أن أكون ذرة في جذر شجرة أو حتى دودة بئيسة في قلب جيفة نتنة، إنني أتمثل الموت شاخصا أمامي في كل لحظة، أشم رائحته في مسامات جلدي، وفي تصببات عرقي، يا إلهي كيف يمكن الرجوع إلى الوطن الذي يسكننا ولا نكاد نحس به، إن أكبر مشاكلنا المعاصرة لا تساوي شيئا أمام هوله المرعب لو امتلكنا إحساس فراشة في يومها الأخير.

ما تزال النافذة مُشْرَعَةً. أغلقتها. أغلقتها بإحكامٍ. نظرت إلى السقفِ. تأَمَّلْتُهُ. أسلاكُ المصباح دالية مثقلة بالضوء. يبدو بضوئه كنجم شاردٍ. إنه موت رائع سيحسدني عليه الناس، وستضطر الصحافة للبحث عن مقدمات وخواتم رائعة. ستذكرني الصحف أخيرا. انطلق خيال الصحافة أخيرا. وضعوا عشرات الاحتمالات هذا الصباح، لكن ما أثارني هو عنوان عريض وجدته بالصدفة وأنا أتصفح زاوية التأبين. المبدع الكبير الدكتور كارسيا ماركيز المغربي وجد منتحرا في غرفته يومه الجمعة، وفي هذا اليوم قال الناس بالإجماع: لقد خسر المغرب أحد أعظم مفكريه. ضحكت من أعماقي: لأنهم يكذبون. حتى أولئك الأقزام الذين لم يكونوا يعترفون بعبقريتي اعترفوا أخيرا، ما أجمل الموت... رأيتهم يقدمون لأسرتي صدقةً لشراء كفني. رفضها ابني أيوب: سمعته يذكرهم بوصيتي: الأنبياء لا يقبلون الصدقة. وعلمت منذ تلك اللحظة أنه سيكون روائيا عظيما.

بدأت أولى زخات نوفمبر تحدث مسارات عنيفة على النافذة المشبعة بالغبار، تذكر عباس كحل زوجته عند الفراق. تحسر بمرارة. أدار ظهره للباب الخشبي. اقترب من النافذة. ما أجمل أن يراقب الرجل العالم من شرفة غرفته. قال بصوت يشبه الهمس كأنما يحدث شخصا قريبا منه.

فتحتُ النافذة. تحسست زخات الماء بأنامل متورمة، تنبعث من الماء روائح الكبريت، ونسمات الهواء مبللة برائحة المزبلة القريبة تزكم النفوس، القذارة تعم المكان، فكَّرتُ: هذه أبلد لحظة يموت فيها الإنسان، الكون الواحد لا يمكن أن يتسع للإنسان. لذلك من الضروري أن يبحث الإنسان عن أكوان جديدة أكثر ضياء وأشد بهجة. من الضروري أن يبحث الإنسان في ذاته عن أكوان لم تكتشف بعد. من التعاسة أن يشتغل الإنسان طول حياته كحمار دون أن يفهم أن هذا العمل يسلب منه أعز ما يملك: أكوانه الداخلية، حياته الخاصة العميقة التي لم يقترب منها أبداً. قال عباس وهم بالانصراف. قاطعه سردال بأن العقل يفرض العودة إلى الواقع واختبار إمكانياته، لكن لم يبد على عباس أي اهتمام. فما يراه العقل فرضا ليس في حقيقة الأمر سوى سخافات ترسخت بفعل التكرار الذي يعلم الحمار. شخصيا لم يكن يهمني كثيرا الجدل بين سردال وعبد السلام، فلقد كنت أدرك أنهما سرعان ما يتفقان حينما يشعران بالجوع، لذلك كنت أحتاج فقط إلى بعض الوقت ريثما يتوقف المطر.

كانت السماء ما تزال ترسل وابلا من المياه، وكأنها تتقيأ بقايا قطع من البصل تتهشم على السطوح المغبرة فتتناثر محدثة فرقعة تشبه الشهب النارية، وكنت ما أزال حتى هذه الساعة أتأمل هذا المشهد الموغل في البدائية، أشفقت على عباس العبد: فعلى الأقل أنا الآن في مكتبي وبين كتبي تفصلني عن العالم شريحة زجاجية كأنما أرنو إلى شاشة كبيرة، أما عباس العبد فما يزال في العراء يبحث عن نبوءة محتملة كأنما يبحث عن سر مفقود.

أَعْجَبَتْني فِكْرَةُ عَبَّاسٍ، عَلى الأَقَلِّ هُناكَ عَمَلٌ جادٌّ هُوَ بِصَدَدِ القِيامِ بِهِ، لا يُهِمُّ إِنْ كانَ عَلى صَوابٍ أَوْ عَلى غَيْرِ صَوابٍ. أَمَّا أَنا فَأَقْبَعُ خَلْفَ تاريخٍ طَويلٍ عَقيمٍ مِنَ الكُتُبِ البَليدَةِ أُقَلِّبُ صَفَحاتِها كَأَنَّما أُقَلِّبُ جَماجِمَ المَوْتى وَأَرْواحَ الشَّياطينِ، أَدْفَعُ ضَريبَةَ بَقائِهِمْ أَحْياءً مِنْ راحَتي وَأَعْصابي، وَتِلْكَ هِيَ التَّعاسَةُ البَلْهاءُ. لَمْ أَجِدْ شَيْئا أَقومُ بِهِ سِوى أَنْ أُراجِعَ مُسْوَدَّاتي وَأَضْبِطَها بِالشَّكْلِ التَّامِّ، تَذَكَّرْتُ صَفْعَةً عَلى قَفايَ انْطَبَعَتْ عَلى ذاكِرَتي بِسَبَبِ "حِمْصَ"، إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ لي مَعْرِفَةُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، فَضَبَطْتُها هَكَذا "حُمْصَ" فَقالَ لي المُعَلِّمُ ساخِرا : " أَضِفْ لَها الفُولَ حَتَّى تُفْهَمَ"، لَقَدْ وَخَزَتْني هَذِهِ الكَلِماتُ كَوَخْزِ الإِبَرِ، وَكُلَّما تَذَكَّرْتُ هَذِهِ الْكَلَمَةَ أُحِسُّ بِالأَلَمِ في بَطْني وَأَشْعُرُ بِرَغْبَةٍ شَديدَةٍ في التَّبَوُّلِ.

لم يكن سردال قد بال على سرواله سوى في المرة التي دعاه فيها عباس للمبارزة، لكنه يتذكر الآن أنها تجربة لا تنسى، وبرر الأمر بأن الرجال فقط هم الذين يبولون على أنفسهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهو إحساس لا يعرف قيمته إلا السياسيون المخضرمون، فبدل أن يبول الإنسان على الأشياء المحيطة به وعلى الناس، فإنه يبول على نفسه اتقاء لشرهم ودرءا للشبهة. تماما مثلما هو الحال مع السجن لا يدخله سوى الرجال.

كان هذا المبرر كافيا ليفهم عباس العبد أن ما جرى له من أحداث، وما تعرض له من إهانات لا يساوي شيئا من أجل تبليغ حكمته إلى الناس وأن ردسة البغل التي تعرض لها في طفولته الأولى على رأسه هي أكبر نعمة وهبت له في حياته، حتى غدا يرى العالم بشكل مختلف، عالم أكثر ضياء وإنسانية، وتذكر حين بحث عن أمه بجانبه في فراشه فلم يجدها. اغرورقت عينا عباس بالدموع، وسادتها المبطنة بصوف الخرفان ما تزال دافئة. أحس عباس بدفئها يسري في عظامه. تأمل الحجرة. أركانها. بابها الخشبي المهترىء. السرير الترابي المسلح بأغصان اللوز وأحراش الخروب في أقصى الزاوية إلى اليمين. جراب اللبن معلق إلى خشبة في السقف. لا يظهر من السقف سوى خشبتين. أكثر السقف مغلف بالبلاستيك لمنع الماء من التسرب، تفوح من تحته رائحة الصراصير النافقة وسط بركة من ماء، تميل ذات اليمين وذات الشمال، وكلب ينبح في الحوش كأنه وحش صغير. أحس عباس بأن الغرفة التي قضى فيها ليلته البارحة قد تغيرت في الصباح. الغرفة تغيرت. والواقع أنهم أخذوه ليلا من بيت جده حيث تقيم أمه وأحضروه إلى بيت أبيه.

لم يكن البيت غريبا بالنسبة إليه، فقد سبق له أن نام فيه قبل بلوغه الشهر السادس من عمره، فهو لا يكاد يتذكر من الشهور الستة الماضية سوى بعض أطياف كمن يغمض عينيه في الظلام فتتراءى له ذرات ساطعة كأنها دوامة غير منتهية من النور يسبح في بركة من السواد، ولكن مع ذلك أدرك أن لا أثر لرائحة أمه في أرجاء المكان، لم يتذكر أنه أجهش بالبكاء، فقد كانت جدته تسهر على إطعامه متى حان وقت الطعام. ومع ذلك أدرك أن عالما جديدا قد بدأ يتشكل، وأن وحشا صغيرا نما في مرآة ذاته، حتى إن أنفه أصبح يأخذ شكل خنزير قذر.

في السنوات الأولى نسي شكل الأم تماما، نسي ابتسامتها العذرية المشرقة، تناسى جدائل شعرها الأسود المتفحم واكتناز صدرها المراهق المسافر مع الريح، حتى إن قاموسه الشخصي لا يعترف بكلمة "أمّ" بسبب ما كانت تحدثه هذه الكلمة في نفسه من صنوف الألم الذي لا ينتهي، ولم يكن يقهره شيء في حياته أكثر من أن يرى طفلا في حضن أمه، أو قبلة زائفة تطبعها زوجة عَمِّهِ على شفتي ابنها الوليد، كان كل ذلك يؤرقه ويجدد في نفسه المواجع، فأقسم منذ تلك اللحظة أن ينتصر على هذا الشعور اللعين الذي يذكره بضعف النساء ومشاعر الفاشلين.

لم يكن من السهل أن يلتقي بأمه. بعد عصر يوم سبت شديد الحرارة، حتى الطيور لا تجرؤ على التحليق في الجو، رمقته أمه مع الصبية يلعب كما يلعبون، اختطفته خطفا. سارت به بين نبات الصبار حتى أدخلته الدار الكبيرة، في المدخل الأمامي من الدار إسطبل مخصص للبغل وبعض الماعز، يليه فناء واسع تتوسطه دالية وارفة الظلال، اتخذ الجد تحتها مجلسا يصنع فيه برادع الحمير من الحَلْفاء، مستعملا في ذلك "رَزامَةً" خشبية ثقيلة تشبه مطرقة عريضة المضرب على شكل أسطوانة لها مقبض طويل يتسع لكف واحدة، ومخصفاً من حديد صَدِئًا يرتق به البردعة قطعة قطعة، ويملؤها بالتبن اليابس حتى تأخذ الشكل الذي يصلح أن يوضع على ظهور الحمير، وقد كان يحمد الله ويمجده لأن تعقيدات الحمير ليست كتعقيدات البشر، فجميع البرادع تصنع بمقاس واحد، فلا فرق بين حمار وآخر، ففي نهاية الأمر ستوضع كلها على ظهر الحمير، وقد يقتضي الأمر في بعض الأحيان أن تأخذ مكانها على ظهورهم بقليل من الركل والرفس مثلما هو الحال بالنسبة للبشر حينما يكون الحذاء ضيقا فيضطرون لبعض الجهد لإدخاله...

كان عباس غارقا في تأملاته في عالم الحمير، وكانت أمه تركز نظراتها في عينيه كأنما تراه لأول مرة. لم يكن يعيرها أدنى اهتمام، بل كان يشعر أنها تضايقه لأنها تقطع عليه لذة التأمل في حركة المخصف يخترق البردعة.

في الواقع لم يكن الجد يصنع البرادع من أجل الحمير، أو إشفاقا عليها من ثقل الأحمال، وإنما كان يصنعها لأَجْلِ الحفاظ على مؤخرات راكبيها، ولولا هذا السبب الوجيه لكانت الحمير قد فكرت في صناعتها كما نصنع نحن أحذية تقي أرجلنا.

أدرك عباس أنه لن يمكث طويلا عند أمه في الدار الكبيرة، فسرعان ما يتفقده أهل أبيه فيأتون للبحث عنه وإرجاعه تحت وابل من السباب والشتائم، مشهد العائلتين يتسابان كان يبعث في نفسه الكثير من اللذة، فقد كان هذا الموقف يشعره بأهميته، خاصة حينما يقارن نفسه مع أترابه الذين لم يكن أحد يبحث عنهم حتى ولو قضوا نصف النهار يتمرغون في روث البغال.

أُخذ في المساء من حضن أمه دون مقاومة. ألقي به في خُرْجِ حمارٍ تَعِسٍ. سار به الحمار بين مسارات ملتوية. توقف الحمار فجأة وعلا نهيقه بعد أن رأى أتانا مقبلة نحوه تحمل برميلين من الماء. الحمير ترى الأتن السوداء في الليلة الظلماء تحت الصخرة الصماء، أنزله عمه من خرج الحمار تحسبا للطوارئ. الحمير مثل البشر عندما ترى الأنثى. همس العم كأنما يتحاشى أن يسمعه عباس.

لعن العم الحمير كلها: أشهبها وأسودها، صغيرها وكبيرها. لعن كاسبيها. "الحمير هي أكبر مشكلة في الدنيا" قال العم، وأضاف: "حينما تشم رائحة الأنثى خاصة" زم شفتيه ولعن زوجته في نفسه.

وَكَزَ العم الحمار ليَحول بينه وبين الأتان المفزوعة، لكن رغبة الحمار لا تقاوم، انقض على الأتان كهزبر جائع، طُرح العم أرضاً. سقطت البراميل. ضاعت خمس كيلومترات من الماء، عادة عندما تسقط البراميل من ظهر الحمار لا يمكن حملها من جديد لثقلها، فتكون رقية مضطرة لإفراغها والعودة إلى الساقية لملئها من جديد، لعنت رقية حمار العم وسلالة الأسرة كلها وراء ابتسامتها الرقيقة المشفوعة بندم خفيف على هذه المصادفة المقرفة، أحسست بدموعها تكاد تغمر المكان، لكنها لم تفعل استحياء، ولو كنت مكانها لقتلت الحمار اللعين. توسل إليها العم أن يذهب بدلها إلى الساقية ليملأ لها البراميل، تعللت بأن في البيت ما يكفي من الماء حتى مساء الغد، ساعدها العم في رفع البراميل الفارغة حتى أخذت مكانها على البردعة ثم انصرفت محمرة الوجنتين.

أخذني وألقاني مرة أخرى في خرج الحمار كما تلقى الأشياء التافهة، كنت أحس بوخز الحلفاء في مؤخرتي بسبب نتوءاتها الحادة، أتقلب في الخُرج ذات اليمين وذات اليسار، أعدل موضعي كلما ازدادت آلامي، يسير الحمار ببطء في طريق كأنها لسان كلب، يتعثر ولكنه لا يسقط. أحمد الله وأستوي في جلستي. يتعثر مرة ثانية ولكنه لا يسقط. أحمد الله وأعدل مرة ثالثة من جلستي. حتى إذا وصل إلى ناحية ضيقة من الطريق يحدها نبات الصبار من كل جانب، رفع رجليه إلى السماء وقذف بي وسط الشوك ووقف يتفرج انتقاما من هذا القزم الصغير الذي يمتطيه، ومن ذلك العم اللعين الذي حرمه متعة لقاء الأتان.

حُمل عباس على ملحفة عريضة إلى الحوش الكبير، كان الوقت عشاء، غطى الشوك أغلب جسده النحيل، لا يوجد شبر من جسده لم يصب بأذى، اجتمعت النسوة كلهن حوله يسللن الشوك بمقابض صغيرة من حديد كتلك التي يستعملنها في تسوية الحواجب، كان يحس بروحه تخرج مع كل شوكة تسل من جسده، لكنه لم يكن يذرف أية دمعة. ألا تتألم؟ تساءلت الزهراء. رد العم وكان غير بعيد يعد قراطيس "الشمة": إن جسده جسد حمار. أخفيت الكلمة في نفسي ولم أرد.

كان العم على حق، فقد تعافى عباس في ثلاثة أيام، وأثبت للجميع أن جسده جسد حمار. ومنذ تلك اللحظة علقوا في عنقه بعض التمائم وأصداف البحر الصغيرة دفعا للعين والحسد. ودفعوه إلى فقيه القرية يحبسه في زاوية معتمة يستمع إلى الطلبة يقرؤون في ألواحهم ويلوحون برؤوسهم يمينا ويسارا كأنهم صفصافة كبيرة في مهب الريح.

الحمار، أجل! الحمار هو سبب كل هذه المشاكل.

لم تمض سوى أشهر قليلة حتى أقبل فصل الحصاد، كانت ذكرى الحمار الملعون ما تزال ترن في أذنيه مدوية، وما يزال جسده يحس بوخز الأشواك كلما مر من لسان الكلب، وكلما تذكر هذه الواقعة الأليمة ازداد كرها للحمير. حتى إذا أقبل الحصاد وتركت في المساء ترتع طليقة من غير قيود، تنفيسا عن يوم شاق من العمل المتواصل في دَرْس القمح وتحميل المؤن إلى الحقول. فَكَّرَ عباس مليا ثم تدبر، ثم حز في نفسه أن يتعرض لمزيد من الضرب المبرح إن هو أقدم على ما تدبره، ولكن الحمار اللعين يستحق كل شر جزاء فعلته الماكرة، لا يمكن للحمار أن يسلم من فعلته الخبيثة، ليعلم هو وفَصيلُهُ أن مثلَ عباس لا يُعبث به، وأن كل من سولت له نفسه إيذاءه سيتعرض للانتقام، أصر عباس على إحراق الحمار حتى الموت، فقد رأى كيف يتخلص أهل القرية من بقايا السدرة في الحقول، كانوا يرشون عليها سائلا لزجا ويضرمون فيها النار، وكان مشهد السدرة تحترق وجذوات اللهب تتطاير منها يستهويه ويأخذ بمجامع نفسه. وكان يطرب أشد الطرب حينما تحاصر النار أسراب الخنافس والزواحف التي اتخذت من دفء هذه الأحراش مأوى لها، فتبدأ في تدافع مسعور لتتقي اللهب الحارق والدخان الخانق. وكان قد رأى كيف يصنع القرويون الفحم من جذوع أشجار اللوز والخروب، فكان كلما رأى نارا تشتعل أحس بنشوة لا تقاوم. فعزم على أن يشعل النار في الحمار حتى الموت، ولم يكن يثنيه عن تنفيذ خطته الممتعة سوى فرصة إيجاد الحمار وحيدا يرعى في العراء حرا طليقا، قنينة صغيرة واحدة من غاز القناديل كافية لتشعل النار في هذا الحمار الغبي جزاء على ما اقترفه من غباء.

النارُ تشتعلُ. شوارع غَزَّةَ تحترق. الأشلاءُ تتناثر في الطرقات. العرب ينددون. القرويون يتفرجون. العرب يغلقون الحدود ويمنعون دخول المؤن. القرويون يصعدون إلى سطوح المنازل يضحكون ويتغامزون. النار تشتعل. القنابل تنفجر. ليلة أولى. ليلة ثانية. ليلة ثالثة...ألف ليلة وليلة، القصف يتواصل. العرب يترقبون. يعدلون من جلستهم. الجامعة العربية أوف، لا تستحق حتى أن تذكر، الأئمة في المساجد يدعون بالهلاك المبين. القرويون يدعون على صاحب الفعلة بالسخط والثبور. الحمار يجري. يتعثر في آلامه. ينهق بأعلى صوته. النار تصل إلى أحشائه. الزبد يتطاير من لسانه. القصف متواصل. القنابل تتساقط. الأمطار تتساقط. العرب يتفرجون. القرويون يتفرجون.

كان العم ما يزال بعيدا في أحد الحقول المجاورة. أنقذ شبابُ القريةِ الحمارَ من النار. غزة مازالت تحترق. هرب عباس إلى بيت أمه. وفي العاشرة جاءت زوجتي ونظفت المائدة. ألقت بالوردة الحمراء الذابلة إلى القمامة، غسلت السكين الفضي ووضعته مع أغراض المطبخ.

الأربعاء، 1 يونيو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 3 .

الجزء الثاني من هنا.

3- ثم إني لما انتهيت من هذا كله، عمدت إلى مذكرتي الخضراء، وقد كان أن أصابها ما ترشح من السماء من ماء، فساحت كلماتي فنمت أنهارا وأشجارا، فنسيت سردال، وأهملت عباسا لبعض الوقت وقلتُ:

لعل الله يجعل في خروج الكلمات من أكماتها خيرا، فتحل كلمة مكان أخرى، وتثور النقطة على النقطة فيصبحان جسدا واحدا للتفسير، وحالنا يحتاج إلى تفسير.

لم يعطني القلم أية رغبة في الكتابة الآن، لذلك أخذت قلما جافّا، وهو اسم على مسمى، فما إن أمسكه بيدي حتى يجف عقلي وينضب خيالي. لذلك فضلت أن أعيد تصميم بعض أحداث الرواية، وتقليص الجمل الطويلة.

كانت مشكلة عباس العبد – على الخصوص- تؤرقني، فقد كان في مخيلتي أن أجعل منه نبيا، أو بتعبير مقبول، مدعيا للنبوة، وبما أن كل نبوة هي في الأصل كشف فقد وضعت عدة احتمالات مؤرقة ليس من السهل الحسم بينها، منها أنني كنت ترددت كثيرا في أن أجعل منه ساحرا أو شاعرا أو حتى مجنونا، رجعت إلى مراجع كثيرة لأقرأ عن فلسفة التدين وطقوس العبادات القديمة وأساطير الشعوب، وهذه هي المرة الثانية التي أتذكر فيها أنني بصدد كتابة رواية، حاولت أن أبعد عن نفسي هذا المارد المسمى بالوعي، ولكنني كلما أبعدت الوعي من دائرة اهتماماتي كلما ازددت وعيا بضغوطه.

إذا لم تنجح هذه الرواية، أكون قد قضيت على نفسي بيدي، لابد أن أبعد الوعي أو على الأقل أتجاهله حتى تنجح الرواية. قلت في نفسي.

مسألة جعل عباس مدع للنبوة لم ترق حتى لزوجتي، مما جعلني أقضي الليل كله أبحث في سيرة عباس علني أجد ما يقربني من فهم هذا الغموض الذي يحيط بسيرته.

لا يذكر عباس إلا يوما منحوسا، كان يوما صائفا، تفرغ فيه الفلاحون لحصاد القمح، كانت الشمس ترسل سهاما قاتلة من السماء، شواظا من نار تلفح الوجوه. الأرض تحت أقدامهم تجعل الدماغ يغلي كمرجل منسي. حتى الحمير والبغال أصبحت تحرن ولم يكن من السهولة السيطرة عليها إلا بشق الأنفس. لم يجرب عباس السقوط من ظهر بغل خارج عن السيطرة أبدا حتى كان هذا اليوم المشؤوم.

فقد عباس الوعي بنفسه وبالأشياء يوما كاملا، وعلى ناصيته ترتسم تفاصيل لحظات ما قبل عودة الوعي.

عباس محاط بنسوة من القبيلة يقرأن عليه الأدعية ويقمن عليه الصلوات، لا يتذكر من هذه اللحظات إلا صدورا منتفخة حرة تسافر دون حدود وشفاها مشققة عليها كدمات متهرئة تتمتم في توسل ووجل. يقبلن عليه في دعة وهدوء، يبللن جبهته ويولولن. لم يدرك عباس أنه قد أصيب بارتجاج في المخ من جراء سقطة البغل. لقد أحدث البغل أكبر نقلة في حياة عباس.

أصبح عنق عباس يبلغ السماء. تطاول رأسه. تجاوز السحب، الآن يشرف عباس على الكواكب. يتحسسها، يشعر كما لو أن أنوار الكواكب تخزن في صدره. لم يعش عباس - قبل اليوم – حالة كهذه. نظر عباس إلى الأرض. تأملها. إنها ليست كرة. أجل إن الأرض ليست كرة ! يؤكد عباس. الأرض كيس من قمامة. الأرض التي نعيش منها كيس كبير من القمامة. أمنا الأرض ليست سوى قمامة. يتمتم عباس. رهبة عارمة تسري في مشاعر عباس. لا يمكن أن تكون في الوجود كذبة أكبر من هذه. يحتاج الإنسان أن يبتعد قليلا عن نفسه حتى تتراءى له الصورة الحقيقية.

تفرس عباس في وجوه الناس. لابد أنهم في الأرض يضعون الأقنعة. لا يمكن أن يكون شكل الإنسان من السماء غير شكله على الأرض.

ومع أن عباسا يدرك اليوم أنه استفاد من رحلة مجانية لم يخطط لها أبدا، بفضل ردسة البغل، فإنه مع ذلك يكره ركوب البغال والحمير وكل مشتقاتها، ويتحاشى المرور في طريقها.

كانت تأتيه هذه الحالة مرتين أو ثلاثا في السنة، لم يكن يعبأ بها أحد، حتى جواريه لم يكن يلاحظن شيئا، سوى أنه كان ينعزل عن الناس يوما أو يومين لا يراه فيهما أحد، فلم يكن هذا الأمر ذا قيمة عند القبيلة، كانوا يعتقدون أنه يرتب لأمر من أمور القبيلة.

في أحد الصباحات الجميلة من شهر أبريل خرج عباس عن صمته. بدا وجهه هذا الصباح أكثر بهاء وتألقا، ترتسم قسمات أمر جلل على محياه، ويشع من عينه إرادة وعزيمة.

- لا يمكن أن يكون هذا هو عباس الذي نعرفه. همست إحدى جواريه لإحداهن.

ولكن عباسا كان يمضي في طريقه يجمع أشراف القبيلة وكبراءها، يبشرهم بنبوءته التي تراءت له. ويشجعهم على الإيمان به.

كانت رسالته واضحة لا تحتاج إلى بيان، من تبعني سيعيش في عوالم الآخرين، يتخلص من عبء المكان والزمان، ويسافر عبرهما إلى عالم الصدق والخلود.

- لا بد أن يكون عباس ممسوسا، أو ذهب عقله. تجمع القبيلة على هذا الأمر. ولم تكن القبيلة في حاجة إلى برهان تستدل به على جنون عباس، كما أنه ليس هناك عاقل يقرأ هذه الرواية فيصدقني.

في اليوم الموالي وجد عباس نفسه خليعا وحيدا في الصحراء. ولولا فراره من القبيلة متخفيا تحت جناح الظلام مع زاد قليل لا يكاد يسد غلالته لهلك بلعنة الآلهة، ولماذا يقتلونني؟ يتحدث عباس في نفسه. لم أكن لأرغم أحدا على اتباعي ولكنهم يجبرونني على أن أعيش في مكان لا أحبه، وطنك هو المكان الذي ترتاح فيه، وقد كنت سعيدا في وطني، بين جواري وأشيائي.

لم يتذكر سردال شيئا من هذه التفاصيل، فقد تأكد أنه لا يعرفه، ولم يسبق لسردال أن التقى بنبي (كم كنت أتمنى أن أجرب شعور الالتقاء بنبي، وأَعْجَبُ لؤلائك الذين كانت لديهم فرصة لقائه فلم يتبعوه، أي نوع من البشر يكونون! قلت في نفسي.) ومع ذلك يصر عباس أنه يعرف سردالا، لا بد أنه قد التقى به في محفل من محافل القبيلة، فليست سحنته غريبة، وملامحه تدل على نبل وعزة نفس، لقد كان عباس واثقا من معرفته. إن معرفته كلها مبنية على ذكرى ردسة البغل، وهي ملاحظة جديرة بالأهمية في التاريخ القديم لارتباط سيرة الإنسان بالذكريات الموغلة في العتاقة.

لم يكن سردال يرى أهمية لمعرفة عباس له، فسواء كان يعرفني حقا أو لا، فهو بالتأكيد قد عرفني الآن، وهذه بحد ذاتها مصيبة أخرى.

ازداد الجو سوءا ، لذلك لم أجد بدا من قضاء الليلة في البيت كنت قد قررت أن أعود إلى مكتبي لأبحث في أوراقي القديمة عن سبب مقنع لوجود عباس وسردال، ولكنني فوجئت بملاحظة صغيرة كتبتها على الغلاف الداخلي لرواية "الغريب" لألبير كامي منذ أكثر من خمسة عشر عام أو يزيد، وهي أن الطاعون يمكن أن يؤسس حضارة معاصرة عظيمة، لم أكن أشك وقتها أن للطاعون مثل هذه القوة السحرية التي تقدم للحضارات ما لا يستطيع العلم أن يقدمه. ومع ذلك فقد بدا لي سببا منطقيا، ففي الغالب لا يمكن لمدعي النبوة الفرار بهذا الشكل، يقاتلون حتى النهاية، لذلك فقد بدا لي أن ملاحظتي السابقة هي الشرارة التي كنت أبحث عنها، فعباس كان يخفي على سردال الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الهروب من القبيلة، لقد هرب بجلده من القبيلة بعد أن عم الطاعون مخافة العدوى، وبما أنه كان يعتبر نفسه بحكم المواهب التي ينفرد بها، فوق الجميع، فقد قرر عدم البقاء ليتخذ نفسه ذخرا للأعمال العظيمة التي سيتولاها بنفسه.

تحكي المصادر التاريخية القديمة ما أصاب أوروبا من ويلات الطاعون، الموت الأسود، وفي ثقافتنا العربية المرض الملعون، ولكن رغم القوة التدميرية لهذا المرض فإنه استطاع أن يوجد لنفسه هامشا كبيرا من الاحترام.

لم يكن عباس يريد أن يتواجد في هذا المكان، وأياًّ يكن السبب فإنه يشعر كما أشعر في هذه اللحظة بالكآبة التي لا تطاق، فقد عدت إلى هوايتي القديمة، أعدُّ عتبات السلالم، وأنواع الأشجار والوجوه في الجامعة: واحد. اثنان. ثلاثة. أربعة.خمسة. ستة.سبعة. ثمانية.تسعة. عشرة، هل تعبت من العد، يمكنك أن تجرب بنفسك! في بعض الأحيان حينما يكون الجو أكثر هدوء، وتكون الطيور أكثر كسلا فإنني أصل في العد إلى التسعة والتسعين وقد أتجاوزها قليلا، حتى تقطع علي تعدادي أصوات الطيور المزعجة أو أصوات الطلبة يتظاهرون في الساحة بسبب لحم العجل المطبوخ في مادة حمضية تُفْقِدُ الوضوء، وعندما تنتهي هذه الموجة أجد نفسي أعود للتعداد من الصفر، لم تكن هذه الحالة تحدث معي إلا حينما أكون في كامل قوتي العقلية، وأكون أكثر تركيزا، لاحظت في الأيام الأولى أنني بمجرد أن أبدأ في عد الأشياء تبدو الأشياء تقترب مني أكثر فأكثر، كانت تبادلني التحية وربما تبتسم أيضا، أحس بدبيبها في مفاصلي، وأصغي لهمسها، حتى أنني أصبحت بارعا في فهم لغة الحجارة ومختلف أنواع الزهور، كانت هذه الطريقة تساعدني كثيرا على الإنصات لنفسي، وكنت كلما تعمقت في نحو هذه اللغة وتراكيبها كلما ازددت جهلا بلغة الآخرين، بطبيعة الحال كنت أتظاهر أمام الجميع بأنني أنصت إليهم في أدب ووقار، والحقيقة أنني كنت لا أرى سوى شفاه تتحرك، وعيون تفتح وتَنْسَدُّ كباب مشرع في الرياح، تماما مثلما هو الحال في السينما الصامتة.

بالنسبة لعباس كان الأمر مختلفا تماما، فقد وجد تابعا مخلصا يبدد عنه العزلة في الصحراء القفر، ويستمع إلى نبوءاته قبل أن يهرب من القبيلة أو يطرد منها، فليس هناك فرق جوهري بين الأمرين ما دامت النتيجة واحدة. انتبهت إلى الساعة كان الطلبة يخرجون من المدرج فلم أدرِ يقيناً هل كانوا يستمعون إلى المحاضرة الطويلة أم كانوا يشفقون لحالي، ولكنني تأكدت أنهم سجلوا المحاضرة كاملة بمصادرها ومراجعها. فضحكت من أعماقي وانصرفتُ.

لو استطاع عباس أن يحصي ذرات الرمل واحدة واحدة، فإن بإمكانه أن يدخل العصر الحديث، تماما مثلما ينفذ الإنسان الحديث إلى عالم استشرافي عندما يبدأ في تعداد عتبات السلالم وأوراق الشجر وتلك المربعات الجبسية البيضاء في سقف المدرجات، إنها عملية تحدث تلقائيا ولا تستطيع أن تفهمها مثلما لم يستطع سردال أن يفهم حقيقة نبوءة عباس.

ذكرتني نبوءة عباس بشخصية روائية جديرة بالاحترام، كان اسمه عبد السلام، رأيته لأول مرة في فاس، حينما كنت طالبا هناك، يرتدي جلابة سوداء هرئة تساقطت أسدالها من فرط ما مر بها من أيام، يجلس في كل مساء بجانب دكان السوسي، ينتظر الداخلين والخارجين إلى الحانوت لعلهم يجودون عليه بما جاد الله عليهم من سقط الدنيا، كانت لحيته الكثة العظيمة وما يترقرق فيها من بق وقمل يضطره لأن يحدث بيديه حركات متسارعة يفرك بها منابت لحيته وأطرافها، ويدلك أعاليها وأسافلها، وقد كان بحق أعجوبة من أعاجيب فاس كما عهدتها.

كان لا يمر يوم إلا ويترك فيه أثرا يبقى لأشهر في حديث الناس، فقد كان في حديثه حكمة مجرب خبر الحياة بكل أصنافها، وذاق من آمالها وآلامها ما الله به عليم، كان إذا سألته عن حاله وكيف أصبح، يحدق في عينيك مليا كأنما يقرأ ما كتب في أحداقك من دهشة وخبث، فيجيبك في ثقة واعتزاز:

ـ منصوب والحمد لله!

ـ هل أكلت اليوم يا عبد السلام؟

ـ إنما يأكلون في بطونهم نارا…

ـ ما الذي تتمناه يا عبد السلام؟

ـ فألقى الشيطان في أمنيته…

ـ هل أنت متزوج يا عبد السلام؟

ـ إن من أبنائكم وأزواجكم عدو لكم…

يعده بعض الناس وليا، وبعضهم مخبرا، وبعضهم مجنونا، ولكنني كنت أعده يومئذ أروع ما جادت به القريحة المغربية، خاصة حينما كنت أنتهي من تلك الدروس المملة التي كانت تلقى علينا، وأنصرف إلى تلك الحجرة المظلمة وأنزوي إلى ركن منها أراجع فصلا من كتاب أو أنهي قراءة ما بدأته البارحة.

لم أكن أعرف مصدر سحر عبد السلام، لعله كان يذكرني بأولئك المفكرين الذين كنت أرى صورهم في الموسوعات المصورة التي كانت تسقط في أيدينا بين الفينة والأخرى ونحن ما نزال في عمر الدراسة، وكانت شخصياتهم تبدو لي غريبة كل الغرابة، شعورهم غير مرتبة، لحاهم كثة بغير تهذيب، كأنك تشم بعر الماعز فيها على بعد أمتار.

تساءلت: لم لا يكون عبد السلام هو عباس في نسخة مطورة؟ ما الذي يمنع من وجود عباس هنا، من الذي يمنع عبد السلام لو ادعى لنفسه نبوءة مفاجئة، أو حتى ولاية تأتيه أثناء تأملاته الطويلة في سبحاته الليلية؟

كنت على يقين تام – على عادتي – أن ثمةَ علاقة ضرورية بين عباس وعبد السلام، قد يكون أحد أجداده القدامى ممن حفظت جيناتهم فتعرضوا للنسخ واللصق تماما مثلما هي الحياة الآن، نسخة مزورة من أسوء جينة ذرية. قدماء المصريين نبهونا إلى إمكانية حفظ الجسد، بينما نبهنا مجموعة من مجانين العلم الحديث إلى إمكانية حفظ كل شيء، يا إلهي! هل يمكن أن تحفظ النبوات أيضا في جينات، هل يمكنني أن أورث سخافاتي وحتى شخصياتي الروائية إلى أحفادي؟ عالم مضحك، طبقات من النسخ واللصق!

ليس البشر إلا نسخة كربونية واحدة تتكرر عبر الزمن، وليست الفروق الطفيفة بين الناس إلا كمسوح الرهبان، ليس ثمة فرق بين ضحكة إنسان ما قبل التاريخ ومدير أكبر شركة معاصرة، ليس هناك فرق بين آلام العصر الحجري وآلام عصر الذرة، يبدو الأمر سخيفا جدا حين نقارن بين نبوءة عباس وقذارة عبد السلام، إنهما من طينة واحدة، ومع ذلك فالأمر يحتاج لكثير من الفكر ليفهم سردال هذه المعاناة.

عاودتني البارحة ليلا حمى الألوان، علينا أن نفكر في ألوان جديدة لإضاءة العالم المظلم، وأن نضيء بشجاعة سراديب النتن، تماما مثلما فعل عبد السلام، ربما نحتاج لكثير من الوقت لفهم أننا لم نفهم شيئا من تاريخنا الطويل العريض، وأن عقلنا الذي وثقنا به كل الثقة، وأعطيناه حق تصريف أمورنا لم يكن سوى غلطة العمر، لم يجلب الاختفاء وراء طقوس الأخلاق سوى التشرد لعبد السلام وقبله كان التعقل سببا في هلاك عباس العبد، وتشريده في زاوية نائية من العقل: يا إلهي كلما ازددت تعقلا في عالم الأشياء كلما ازددت تعاسة في عالم الناس ! أمر مخز أن تبدأ يومك بسب اليوم الماضي! قال سردال.

كان عباس يتذكر بمرارة تلك الأيام، يوم خرج من القبيلة ينشد عالمه الخاص، هاأنذا الآن وحدي كجرذ خارت قواه، لا يمكن أن تكون نبيا وسط جماعة من الشياطين! من فرط سخريتي أن أجد نفسي جنبا إلى جنب معك يا سردال. لم أصنع تاريخي، ولم أختر لحظتي كما أنك لم تصنع تاريخك ولم تختر لحظتك، ولكننا قذفنا إلى هنا قذفا مقذعا، أنت باسم العلم وأنا باسم الدين...ما أتعسنا يا سردال!

في الواقع أنا لا أفهم كثيرا هذا الخطاب، وإذا حدثتني نفسي بالفهم أذكرها بتاريخ الإخفاق الطويل، إخفاق يتجاوز صناعة الفكر إلى تحطيم الذات، لسنا في حاجة إلى مزيد من الإخفاقات.

الأربعاء، 25 مايو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 2- يتبع.

الجزء الأول من هنا:
2- أعطتني تدوينة لأحد أصدقائي المصريين دفعة جديدة للاستمرار في الكتابة، فقد نسيت مشكلة ثغرة الزمن مع سردال، وتعرفت إلى شخصية جديدة بالصدفة هي عباس العبد، تحدث عباس عن كتاب ألفه موسى بن ميمون حول البواسير وعلاجها، لا شك أن أحد الأيوبيين في زمنه كان مريضا بالبواسير، ولاشك أن ابن ميمون كان يلعب كما يلعب إخوانه الآن بالمؤخرات العربية.

في هذه اللحظة كان سردال ما يزال يبحث عن حل لمشكلته، فكر في مراجعة جميع الأكواد البرمجية التي تسمح له بتجاوز المشكلة،فجأة بدأت الكلمات تهرب من أمامه، وجد سردال نفسه مع عباس العبد يحتطبان، عباس الآن يحمل سيفا، سردال ينظر إليه . عباس يدعوه للمبارزة.

رجعت إلى سيرة سردال أبحث فيها علني أجد ما يعطي مصداقية لهذا العبث الروائي، لم أجد شيئا. وبما أنني منذ البداية كنت أتمرن على كتابة رواية، لم أعر تطور الحدث أية أهمية. على كل حال إن كلمة سردال هي جزء من اختصاصي الذي أتقنه، فبقليل من الذكاء تحيل كلمة سردال إلى السرد المقلوب، وهي حالة ظلت تلازمني طوال الليلة الماضية.

ترك عباس العبد قبيلته حاملا غيظه معه إلى هذا المكان المجهول، كان كل ما فيه من أمارات الحنق والحزن تنبئ أن وراءه تاريخ عظيم من الفوضى، ولكن الفوضى نفسها لذيذة لو كانت منظمة مرتبة، قلت في نفسي: ما أحلى الفوضى المنظمة، هناك ندوب عميقة رسبتها سنون من الهيبة والوقار، وعزة الغزوات في الصحراء.

تخيل عباس العبد نفسه بين جواريه. سقط السيف من يده. تذكر لحظته ووقوفه أمام سردال. رفع السيف وأحكم قبضته. لا يمكن أن تكون مسيرة الإنسان والتاريخ كله بين قبضة سيف ونهد امرأة. فكر عباس وسب نفسه في نفسه.

لم يكن سردال خائفا، ولكنه كان بادي التوتر، حاول سردال أن يتكلم، لكن اللغة أيضا اختفت. بحث سردال عن لسانه. تحسسه. لمسه بيده. اللسان في مكانه واللغة غائبة. لم يدرك سردال أن اللغة نفسها ترتبط بالزمن. لا لغة خارج الزمن، هناك شكل واحد ممكن: أن تتحدث إلى نفسك. تستمع إلى حديقة ذاتك. لا يهم أن يفهمك الآخرون،ليس باستطاعتك أن تجعل حديقتك الخاصة مشاعا للعموم.

حاول سردال أن ينفذ إلى برنامج الزمن، ويقوم بتحديث السطر الثالث عشر، لم يكن الوقت كافيا للقيام بهذا العمل المجنون، يجهد نفسه في تذكر كيفية عمل نظام الزمن، يستظهر في نفسه الكثير من الأوامر والمتغيرات، لن ينفع هنا لا (C++) ولا أوامر (Shell)، خطأ إضافي يمكن أن يجعل الأمر أكثر تعقيدا. يخشى سردال أن يجد نفسه هذه المرة في ضيافة أسد جائع في أطراف الصحراء، أو يكتشف ثغرة أخرى تجعل من بن لادن مرشحا للانتخابات الأمريكية، بقليل من التفكير يمكن أن تحدث هذه الأشياء. العقول تنتقل عبر الزمن بسرعة كورم خبيث. تمتم سردال. عالم مجنون، عالم لا يفصله عن الهاوية إلا جدار شفاف من الحمق.

يقرر سردال أن يخاطر. يرسل سردال بعض الأوامر البرمجية عبر طاقته الإيحائية إلى حاسوبه. عباس يقترب منه أكثر. عباس يشهر سيفه أكثر. عباس مصِرٌّ على المبارزة.

خطر لسردال فكرة ربما تغير الأمر كله: عباس رجل فر من مكانه، وسردال رجل فر من زمنه، منطقيا – فكر سردال – لا يمكن أن نحل مشكلة الزمن بمشكلة المكان، آه لو كان بمقدوري أن أنفذ إلى عقل المكان، بدل أن أبحث في ذاكرتي المتعبة عن الأوامر الضرورية لتغيير برنامج الزمن، على الأقل كنت أستطيع أن أشل حركة يده أو أبعد عنه السيف قليلا، أو ألقي به في أحضان جواريه اللواتي يسيل لعاب المرء بمجرد تذكر طلعتهن البهية.

تذكرت كلب عمتي في البادية. لعابه يسيل بمجرد أن يرى قطع اللحم. بعضنا يموت بمجرد أن يشم رائحته.

لم يكن في استطاعتي أن أجاري سردال. تركته لمصيره مع عباس العبد. أغلقت مذكرتي الخضراء. أحكمت إغلاقها. أكره أن يقرأ غيري ما أكتب. قصدت مقهى "لوازيس". وضع سعيد أمامي على الطاولة المستديرة ما تعود أن يضع. لم تكن هناك ورود حمراء. لم تكن هناك أية سكين. قناة الحيوانات تعرض شريطا وثائقيا حول الأسود وصراع البقاء. تذكرت سردال. لا بد أنه الآن في ضيافة الأسد الجائع. لا أريد أن أعرف، قلت في نفسي. الناس في المقهى يدخنون. على القناة غابة تحترق. الناس في المقهى يسعلون. السماء في القناة تبول. نظرت إلى هاتفي المحمول، Google يذكرني بموعد مهم. أغلقت هاتفي. لا أريد أن يذكرني أحد. دخل بعض الأساتذة إلى المقهى. خرجت. تذكرت جارنا الصباغ. لابد أن يكون سردال قد وجد حلا. هل يعقل أن يستفيق الرجل من نومه ليجد نفسه في صحراء مقفرة مع عباس العبد.

عينا عباس تترقرقان كالبحر المزبد. أجفانه تنقبض وتسترخي. شعر شاربه يتمدد. عباس يعض على شفته السفلى، يتقدم أكثر وأكثر من سردال، الأرض تحت سردال مبللة بالماء.

- لعنة الله على البرمجة والتكنولوجيا، يقول سردال في نفسه!

- لعنة الله على القبيلة. يقول عباس في نفسه!

- قبل عصر البترول كنا نعيش في سلام أكثر، كنا راضين بشعر الصحراء ومضارب الخيام. نعشق بعمق. الآن تغير كل شيء. يقول سردال.

ينظر تحت قدميه. لقد فعلتها. ينظر إلى عباس. هذا الأحمق ينوي على الشر، ما أسهل أن يقترف الرجل الشر. يمني سردال نفسه بالهرب، عباس يقترب أكثر، يضع السيف على رقبة سردال.

يكتشف سردال أن وضع السيف على الرقبة ليس سوى تقليد قديم للترحيب بالضيف الجديد.

إن بعض الظن إثم. همس سردال. هل من الضروري أن يبلل الرجل سرواله من أجل أن يفهم أن الآخر لا يريد به الشر. وأن رقصة السيف التي قدمها عباس ما هي إلا طقس لتقديم الورود على الطريقة العربية.

أيعقل هذا ؟ يقول سردال. لا بد أن يكون برنامج الزمن قد تغير، لا بد أن عباسا كان يريد بي سوءا. لا يمكن للرجل أن يتغير بهذا الشكل إلا أن يكون رأسه رأس أفعى. لابد أن يكون قد حصل شيء ما في برنامج الزمن، كنت أرى ذُراقا في عينيه، وشررا يتطاير من شدقيه، لابد أنه كان ينوي شرا.

لم يشأ سردال أن يسأل عباسا عما يفعله في هذا الخلاء القفر، ولكن علامات الذهول بادية على كليهما، لا يريد سردال أن يستفز عباسا حتى يتأكد من حقيقة نيته، ربما كلمة واحدة طائشة تشحذ السيف مرة أخرى فيسقط المطر. اقتربا قليلا من شجرة هرمة.لابد أنك هنا تبحث عني كما كنت أبحث عنك، بادره عباس.

هذه مقدمة رائعة، يفكر سردال، لا أذكر أنني عرفتك قبل اليوم، ولم يسبق لي شرف لقائك. يؤكد سردال.

نظر عباس إلى سردال مليا، تفحص عينيه. نظر إلى أخمص قدميه، لابد أن تكون أحد حواريَّ. لا يمكن أن تكون هنا إلا لأنك أحد حواريَّ. فلا تخذلني مثلما خذلوني ولك الخلود.

كان عباس يريد أن يسترسل في الكلام، سحابة من التأمل تغشى عينيه، لا بد أن يكون هذا الوهج من أثر صدمة عابرة بالمكان.

رجعت إلى مقهى لوازيس، أمطار خفيفة بدأت ترش نوافذ المقهى، كان مراسل الجزيرة يقدم تقريرا عن اجتماعات الجامعة العربية. تمنيت من أعماقي لو انقطع التيار الكهربائي. انقطع التيار الكهربائي. رجع بعد نصف ساعة تقريبا. ازددت شعورا بالوحدة، طبعا ليس الوحدة العربية.

ألقيت بكأس من القهوة في معدتي. خرجت مسرعا لأصل إلى مكتبي قبل أن تجفل السحب المتخمة بالذنوب وأدعية المنابر، لا أريد أن أتبلل.

كان المؤذن في المسجد القريب يرفع أذان المغرب، فكرت أن أصلي المغرب هناك. وبما أنني لا أشك في كوني ما زلت على وضوء. دخلتُ. اتخذت لي مجلسا في الزاوية اليسرى إلى الخلف. كانت أمعائي تتمزق لكثرة ما استهلكت من سوائل. كدت أبول على سروالي لولا أن تغمدني الله برحمته فدخل الإمام. سردال أيضا بال على سرواله لما التقى بعباس لأول مرة.

في الصف الأول، على يمين الإمام، بمحاذاة الجدار، يقف ثلاثة شبان تصلني روائح المسك والكحل منهم. كم أكره رائحة المسك الذي يباع في وجدة ربما يصنع باعتماد الصيغة الكيمائية الخاصة بخراء الحمير، لا أدري، أحد هؤلاء الشباب كان يرمقني من حين لآخر، هل يعرفني؟ قلت في نفسي. شخصيا لم يسبق لي أن التقيت بشخص من أفغانستان أو باكستان في المغرب. هذا النوع من المخلوقات لا يحب أن يُلوَّث المسجد بسراويل "جينز"، وأنا أرتدي واحدا. يبدو لباسهم نشازا في المسجد، لكن من حقهم أن يلبسوا ما يريدون، قلت في نفسي، ما داموا لا يؤذونني. على الأقل هم يعتبروني مسلما ضعيف الإسلام. كلمة مسلم تكفيني.

وصلت إلى المنزل مباشرة بعد أن صليت المغرب، كانت السماء ترعد مرة أخرى. انقطع الكهرباء نصف ساعة تقريبا فعاد من جديد، ثم عادت معه تقارير عما يسمى بالجامعة العربية. ذهبت لأتبول وفي نيتي أن أعود إلى سردال وعباس العبد.

لم أحبذ الكتابة مباشرة على الكمبيوتر مخافة أن ينقطع الكهرباء فجأة دون سابق إنذار، أخرجت قلمي الذي لازمني منذ دراستي الإعدادية، أسميه العَكَوَّل، اعتدت على ألا أكتب به إلا ما أراه ذا شأن. لا أدري ما سر سحر العكول، فيه براءة طفولتي الأولى. كان الحبر قد تصلب في قناته. حاولت أن أضغط عليه قليلا حتى ينفث بعض المداد الأسود في القناة باتجاه الحوض ثم الرأس، لكن صلابة المداد وتكدسه على جنبات القناة حال دون وصوله إلى الرأس. لا بد أن أقوم بتنظيفه، وهي مهمة تشبه العبادة بالنسبة لي، أحس فيها بالخشوع، ولو كنت أحس بعشر ما أحسه من خشوع في الصلاة، لكان لي شأن وأي شأن. فككت القلم إلى أجزائه الخمسة وابتدأت بجلفته وسنه أنظفهما بنتفة من القطن وقليل من الكحول المركز، أزيل عنهما ما ترسب من سواد العمر حتى أصبحا لامعين. ثم انتقلت بعد ذلك للشّقّ أتحسسه بإبرة ناعمة أسُلُّ بها ما تبقى من طهر الطفولة، حتى إذا انتهيت إلى شباته عالجتها بقطعة من القماش الأبيض النقي، فأصبح القلم شابا وسيما مفتول العضلات، لا يقوى على مجاراته في الكتابة والتدوين عمالقة الصناعة من أهل التحبير.

الاثنين، 23 مايو 2005

مشروع كتابة رواية (السكين والوردة) 1-البداية.


الفصل الأول :
ينتابني في كثير من صباحات([1]) الصيف القائظة شعور غريب بالدهشة وأنا أرتشف قهوتي الصباحية، وعلى الطاولة سكين بجانب باقة من الورد الأحمر، لقد رتبت هذه الأشياء فوق الطاولة بشكل غير مقصود، ولا مجال فيها لتدخل الذوق، ولا لحسابات المهووسين، ولكن مع ذلك يبدو لي، كما يبدو لزواري، أن هناك تدخلا بشريا يريد أن يفرض معنى لهذه الأشياء، وأن يجعل ثمة توافقا على نسق معد سلفا لمساءلة الطاولة، الواقع أن هذا الصنيع ليس صنيعي، وإنما هي عادة تعلمتها من الأولياء الصالحين، المبجلين بكل القداسة والمحبة السرمدية، ومع أنني بريء وطاهر حتى في اختيار كلماتي القصصية فإن بعض القراء ما يزالون يلحون في طلب جواب مقنع، حسنا، لنرتب المائدة بشكل آخر، الورود الحمراء نستبدلها بورود أخرى صفراء، والسكين نستبدلها بملعقة قديمة متهرئة، والقهوة نستبدلها بكأس حليب دافئ، لنبعد الكرسي قليلا عن المائدة، أو لنكون أكثر تحضرا ولا نبدو لأصحاب الذوق جلفا غلاظا، لنضف كرسيا آخر ونحضر خصرا رقيقا أو وجها جميلا متألقا، هل تبدو هذه الصورة أكثر جمالا، لا شك أن الطاولة لا تتحمل كل هذه العناصر، ومع ذلك سنفترض أن للطاولة قلبا واسعا وباستطاعتها أن تستقبل عددا كبيرا من الضيوف المحترمين، لنضف قليلا من الذباب ([2]) يعبق بالسحر الصيفي، ويعزف نشيد الفرح لبتهوفن، لنلق ببعض بقايا الخبز اليابس على جنبات المائدة وننتظر قدوم النمل وحشرات أخرى لم تتعرف عليها العلوم الطبيعية المعاصرة بعد، هل هذه الصورة هي الأجمل، لنلقي نظرة سريعة من زاوية أخرى على بعد متر من المائدة، توجد غرفة خاصة جدا، ولكنها من النوع العمومي الذي لا يتسع لمسافرَين اثنين في وقت واحد، تزكم روائحها الأنوف الجالسة إلى الطاولة الصباحية، ومع أن هذه الروائح القبيحة والمقززة ـ حسب زواري ـ تبعث على التقيؤ بمجرد الحديث عنها، إلا أنها مع ذلك هي نتيجة عناصر المائدة الخشبية، والمسألة التي تحيرني وتدعوني إلى الدهشة هي أنها لا تتحول إلى قذارة إلا عندما تمر في أمعائنا ، هل تتصور أن مصارينك مصنع لعطر باريسي عندما تستهلك كمية من الورود، أو مصنعا للأجبان الهولندية أو الدانمركية عندما تتناول كأس حليب دافئ.

الآن علينا أن نحاول إلغاء أشكال الدهشة ونعود للمائدة كما هي بالفعل، علينا أن نلغي كل التفاصيل التي تبعث على التقزز، أن نطرد الذباب والنمل، أن نجمع فتات الخبز وننظف المكان من الخيال الجامح، وأن ننسى وجود تلك الغرفة الخاصة جدا، وإن شئت وأردت أن تلتصق بالأولياء فاصرف عنك ذلك الخصر الممشوق التائه في دلال، وعد إلى مائدتك، لا شك أن العالم سيصبح صغيرا جدا، والعلاقات التي تحكمه صغيرة جدا، وسيبدأ ذهنك في تآلف رهيب مع العناصر القليلة المتبقية، لن يتشتت مع الألوان والروائح ولا في عد فرق النمل والذباب ولا في منظر فتات الخبز المسجى على الأرض، سيكون بإمكانك أن ترى لونا واحدا جميلا، لونا أحمر للورود، ولونا أسود للقهوة، ولونا فضيا للسكين، يمكنك أن تضيف إذا شئت جريدة مرموقة ولتكن بالفرنسية ليقال عنك إنك من المثقفين، لا يهم أن تتقن الفرنسية، كل ما يهم أن تزين طاولتك بنسائم الصباح الباريسية.

كانت عيناي ترنو إلى ما وراء المائدة، ليس بوسعي أن أتأمل اللون الأحمر طويلا، فبناء على نصائح الطبيب يمكن للون الأحمر أن يؤثر على جهازي العصبي، ويشل حركتي في اليوم المقبل، ولكن مع ذلك نصحتني التي في البيت أن أعالج مشكلة اللون الأحمر باللون الأحمر، في الأيام الأولى اكتفيت بالورود الحمراء على الطاولة، وفي الأيام المقبلة حاولت أن أجعل حياتي كلها تصبغ بهذا لا اللون، إن مشكلتي مع اللون الأحمر جعلتني أرى الدنيا بشكل مختلف، ليس في وسع المرء أن يكذب نفسه، حاولت أن أصبغ الجدران باللون الأحمر أيضا، وأقف بإجلال أمام اللون الأحمر، وكنت أدعو في نفسي أن يبقى لمدة أطول، أنظر من النافذة إلى السائقين الغاضبين عندما يطول انتظارهم، وأبصق على نفسي، لاشك أنهم حمقى، بعضهم يتمنى لو أن الضوء الأحمر غير موجود أصلا، وكنت أتمنى من أعماقي لو أن الضوء الأحمر تسمر في مكانه لا يبرحه، لقد ازداد حبي لكل ما هو أحمر: الأقلام الحمراء. الرايات الحمر، خراء الحمير، حمّار الشفاه، كنت أطبق نصائح الطبيب بشكل جنوني، حتى أصبحت حياتي كلها كالساحة الحمراء، بركة من أمواج حمراء لا تنتهي، يمكنك أن تشمها على بعد اللون الأحمر.

تدريجيا أصبح سردال لا يميز الألوان، وبما أنه كان في فترة ما من حياته هاوي تصميم فإنه لم يعد يميز الألوان إلا برموزها القياسية، تبدو غابة الألوان كحروف وأرقام لا تنتهي، لا يمكن أن تكون الحياة سوى غابة من الأرقام في سلسلة متراصة تؤذي العين والنفس، هنا تذكرت المائدة الصباحية، لا شك أن الشعراء كانوا يكذبون، فقد كان من الغباء جدا أن يكون فوق المائدة ما يدل على الشعر أو على الحب، بل مجموعات غير محددة من الأرقام والفوضى، رقم يتأمل أرقاما، الأرقام تتزاحم على المائدة كجيش يستعد للمعركة، لا يمكن للذباب أن يكون سوى آلات القتل، ولا يمكن للورود أن تكون سوى دماء القتلى، وحتى لو طلبت من روائي محترف أن يقدم لي حبكة جيدة تدور حول المشهد الذي قدمته فإنه لا يستطيع أن يذهب بخياله أكثر مما ذهب إليه خيالي المريض.

في اليوم التالي رن الهاتف المحمول على الساعة السابعة والنصف، كان يوم جمعة رائعا، ومع أن الجو كان مشمسا وجميلا يدعو للذهاب إلى الحبشة ([3])، كان سردال ما يزال يغط في نومه بعد أن قضى الليلة يبحث في مشكلة ظهرت في بعض الأكواد البرمجية، لأول وهلة بدت الأمور عادية فبرنامج الزمن مستقر، كل شيء على ما يرام، كل شيء مرتب بشكل جيد ورائع، كانت الأسطر البرمجية تتألق كمسارات خضراء في حقل من القمح المشبع بالماء، تتراقص أمامه على الشاشة في تتابع مميت، على الأقل ليس كرتابة المائدة وفتات الخبز وجوقة الذباب، ثم بدأت مسارات القمح تتموج وتخرج عن خطوطها بداية من السطر الثالث عشر، بدأ الزمن في الحقل غير مستقر تماما، فبدلا من أن يتقدم نحو الأمام أصبح يرتد إلى الوراء، لابد أن يكون اليوم يوم جمعة. قال سردال. راجع سردال التقويم على شاشة "لينكس". الجمعة، لابد أن يكون اليوم يوم جمعة، بما أن البارحة هو يوم خميس، لابد أن يكون اليوم هو الجمعة، أجل الجمعة. أكد سردال. هذا ما يقوله المنطق الذي تعلمناه، هذا هو المنطق الذي تقوم عليه حياتنا، نستخلص به أجورنا، ندفن به موتانا.

كانت المائدة ما تزال في مكانها عندما كلمني سردال، لا بد أن يكون التاريخ عندنا في وجدة مستقرا، حاولت أن أشغل ماكنتوشي (الآي ماك) لكن خطوط الكهرباء لم تكن تعمل كعادتها صباح الجمعة... لم أكن أريد أن أعرف شيئا، كنت أريد فقط أن أستمتع بألوان المائدة، ومع أن المعرفة في بعض الأحيان تفرض عليك بنفس المقدار الذي يفرضه عليك الذهاب إلى المرحاض، فقد قررت أن لا أتحدث مع سردال في مشكلة برنامج الزمن. انتظرت حتى الثانية عشر وثلاثين دقيقة، يبدو أن الآذان أيضا لن يرفع، لقد كان الأمر طبيعيا بالنسبة لي بسبب خيوط الكهرباء، توضأت بسرعة جنونية وفي نيتي أن أقصد أقرب مسجد.

كنت أثناء الطريق الطويل غير المعبد منشغلا بالتفكير طوال الوقت بالوردة الحمراء ونظام المائدة، من الأفضل للمرء أن لا يوسع دائرة اهتمامه كثيرا، وردتان أو ثلاث كافية لتعطيه انطباعا أوليا عن البستان، مع ذلك كانت مكالمة سردال ما تزال تضغط على كل تفكيري، هل كان سردال صادقا، هل المكالمة كانت حقيقية أم هي نوبة من نوبات الهلوسة التي تنتابني كل صباح.

أضحى المسجد بعيدا على غير المعتاد، هناك- على اليمين- في الشارع الرابع، لا بد أن يوجد دكان لبيع اللحوم، وبجانبه صيدلية، ودكاكين أخرى تبيع مواد غذائية مختلفة، لا أدري إن كان من الضروري وجود صيدلية بجانب جزار، ولكن هذا كل ما كنت أعرفه من تجربتي المريرة في هذا الشارع الطويل، الآن لم يعد هناك جزار ولا صيدلية، ولكن الوجوه هي الوجوه لم تتغير كثيرا، سوى أنها لا تعيرني أي اهتمام، البقال حسن هنا منذ أكثر من عشر سنين، فر من سوس –والعهدة على راوي الرواة- لكي لا يدفع لطليقته نفقة الأطفال، والحاج بنسعيد ما يزال كما عهدته بسبحته الخشبية التي تعود إلى زمن الولي الصالح عبد القادر الجيلاني، ما يزال لسانه رطبا من ذكر الله، لكن لا أحد الآن يعرفني أو يكلمني.

حاولت أن أعود إلى البيت بأقرب طريق، كان الجو ما يزال لطيفا، قليل من الرياح الشرقية تتراقص على أوراق شجر الزيتون الذي غطى أرصفة الشارع الكبير، تذكرت المؤخرات العربية وهي تتراقص وتهتز كأنها جان، لم أعر المسألة كبير اهتمام، فكثير من الأمور في حياتنا العامة والخاصة تقتل من الضحك، دخلت مكتبي وجلست إلى الآي ماك، ولأول مرة نسيت أنني بصدد التمرن على كتابة رواية، ولأول مرة كدت أن أستسلم وأعلن لقرائي أنني كاتب فاشل يحسن نقد الرواية ولكنه لا يستطيع أن يكتب رواية واحدة !




[1] - وهذا مبتدأ التحقيق الكافي في شرح رواية الكافي لصاحبها العلامة النحرير الدكتور محمد بنسعيد أطال الله في عمره وغفر له من ذنبه. قال العلامة المحقق: اعلم حفظك الله ورعاك، وأتمم عليك من فضله وعافاك، وسخر لك من عميم الفؤاد ما يجعلك بالرواية قمين، وبأسرارها البينات جدير، فإني رأيت أهل العلم في هذا الفن الجليل لا يميزون بين الرواية والغواية، وأكثرهم لِلَطائف هذه الصنعة يجهلون، وعن خباياها ناؤون، حتى عثرت بفضل الله ومنته على هذا المخطوط النادر في أحراش قريتي، في بيت تحت الردم مبلول بالماء والتبنِ، فظننت البيتَ أول ما نظرت مرتعا للوحش والوحيش، لكثرة ما وجدت من روث الحمير والبغال أعزك الله، وقد كانت المخطوطة لا تكاد تبين، لكثرة التقطيع والمزق، فلففتها حِزَقا حِزَقا، واجتهدت في إتمام بياضاتها حتى بلغت السنة في الترميم، فلما اكتملت – والكمال لله- واشتد عودها واستوت سِفْرا، عرضتها على بعض أهل العلم ممن أثق في روايتهم فاستحسنوا باطلها، وأقسموا أن حقها باطل، وأن باطلها حق. ثم إنهم شددوا علي في نشرها بين الناس وحذروني من العوام الذين يقتاتون على أعراض الناس. فعزمتُ وتوكلتُ. واستخرتُ ونفذتُ. فأخرجتها كما هي أقرب إلى الصواب، لم أتدخلْ إلا في مواطن يسيرة، ولم أخض في مراتع الخلاف إلا لضرورة، درءا لمفسدة محتملة، وتقصدا للقربى. وقديما بلغني أنهم قالوا إذا لم تكن قادرا على بلوغ الرجال فتمسح بهم. فإن الرجولة مبعث الكمال. والبَعاد البعاد عن الحثالة فإن لم يصبك وزرهم لم تسلم من ألسنتهم. فتوكلت على الله وقلت:

إن الصباحات جمع مؤنث سالم لمذكر غير عاقل، وإنما تمادينا –نحن اللغويين- في إلصاق صفات الأنوثة بكل ما هو غير عاقل. والتحقيق عندي أن الصباح والصباحين والأَصْباحَ من مقدمات الغَبوقِ. ولقد أخبرني من أثق في روايته أن عباسا كان لا ينام حتى الصباح حتى إذا استفاق من نومه وجد الناس نياما. وقد ظل على هذه الحال زمنا طويلا حتى لم يعد يتذكر شكل الإنسان، فلما قيض الله له رؤية هذا الكائن أصيب بالدهشة والجنون. فكان الناس يتحاشون قربه بسبب جنونه، وكان هو يهرب منهم بسبب بشاعتهم: أجساد بغيضة تشبه مقلاعا مقلوبا تتحرك بلا حياة.

قال الراوي: عثرت في إحدى المكتبات العامرة على مخطوطة معنونة بـ"التاريخ الطبيعي للبشر والحجر" وفيها وصف دقيق لأنواع البشر منذ أن خلق الله الكون، ومن غرائب ما قرأته في المخطوط أنه سيأتي زمان ترى الإنسان فيه يتحول إلى بَشَر، نسبة إلى بشرة جسده، وهذا الوصف ليس من باب إطلاق الجزء على الكل، وإنما هو من باب وصف الأشياء بموصوفاتها.

وقد سألت بعض أهل العلم عن هذه اللطيفة فأخبروني أنه يأتي زمان على الناس يفقدون أعضاءهم الداخلية عضوا عضوا فيصبح الإنسان كتلة منفوخة من الجلد يتقدم نحو حتفه بسلام جنوني. والله أعلم.


[2] - قال صاحب لسان العرب والعجم: الذباب والذبان –بفتح الذال المعجمة أو ضمها- لغة واحدة ألا ترى أنهم يقولون بشر و حشر وعش وشع فيقدمون ويؤخرون ويقلبون ذوات الشبه من الأصوات، وإنما لا فرق بين الباء والنون في الرسم سوى أن النون أثقلت قليلا بكثرة الاستعمال عند العجم فاحدودبت بعض الشيء وحافظت الباءُ على استقامتها، وهذه إحدى لطائف اللغة وسر من أسرار جمالها، فـ"البَاءُ" ومؤنثها "الباءَة" أصبحت تثقل كاهل الشاب الفطن الذي يقتل أطفاله في جسده. جعلك الله من الفطنين إلى هذه اللطيفة التي ساقها لك القدر على طبق من قَصَبٍ لا مِن ذَهبٍ فيذهبَ عقلُك.


[3]- عبارة كان يستشهد بها أستاذ النحو في الجامعة.

الجمعة، 18 مارس 2005

قراءة لاشعرية في دواوين محمد السعدي الشعرية.

(1)
هناك حقيقة واحدة في الشعر:
إما أن تكون شاعرا أو لا تكون . وليس في وسع المرء إلا أن يتقبل هذا التبسيط المخل بروح الشعر نفسه إذا أراد أن يفهم طبيعة الشعر في بساطته وعنفوانه، فمهما حاولنا أن نختلف حول شعرية نص من النصوص فإننا في الأخير لا نختلف حول جمالية اللغة التي تحتويه والشعور الجميل الذي يصدر عن إيحاءاته وصوره، ولكننا مع ذلك لو أجهدنا أنفسنا في البحث عن معايير نتفق حولها في شعرية نص من النصوص فإننا نكتفي كما عند "الرياضيين" بموضوعات أو مسلمات ننطلق منها في أحكامنا، فكثير من "الكلام" الذي يتصدر صحافتنا الحديثة، بل الكثير مما يطبع هذه الأيام ليس فيه من الشعر إلا الاسم، وإذا طلبت مني أن أستدل على لاشعريته رأيتني عاجزا عن أن أعطيك دليلا واحدا أهدُّ به هذا الكلام مادمت ترى أنت أن هذا "الكلام" هو شعر كغيره من الشعر. إن المسألة هنا تتعلق بتقاليد القراءة "الشعرية" أكثر مما تتعلق بالشعر نفسه، وعلى هذا الأساس تستطيع أن تأخذ أي نص من النصوص لتقرأه قراءة شعرية مجردة عن سياقه فتصنفه في الشعر وأنت مرتاح البال، مطمئن النفس، لا يحاسبك أحد ما دمت مقتنعا بأن قراءتك لـ "الشعر" هي قراءة "شعرية"، لكن دعنا الآن نبتعد بك قليلا عن مجال القراءة الشعرية لنحاكم الشعر بطقوس أخرى ليست من جوهره، ولا تستطيع أن تضغط علينا فنوجهه توجيها مسبقا يقتل روح الشعر ويلوي عنق اللغة، لن ندخل معك أيها القارىء الكريم في متاهات النقاد، ولن نعكر صفوك بالمصطلحات والمفاهيم الشعرية التي تفهمها أو لا تفهمها، -وكنا قادرين على ذلك لو أردنا-، وإنما يكفينا هنا أن نلم مؤشرات قرائية من مجموعتين شعريتين للشاعر محمد السعدي، هما على التوالي الشـهيد(1) وعبير المجرة (2).
(2)
تعترضنا في بداية قراءتنا لهذين الديوانين إشكالية التجنيس، ونشير في هذا السياق بأن محمد السعدي في ديوان "الشهيد" لا ينص على أنه يتناول شعرا، بل ترك الديوان خلوا من أية إشارة واضحة إلى جنسه، فنحن مضطرون في هذه الحالة إلى التعامل معه على هذا الأساس، فالعملية في نظرنا مقصودة ولا مجال هنا للنسيان، لكن مقدم/مؤخر الديوان هو الذي نص على ذلك في كلمات مقتضبة:"محمد السعدي شاعر حد الاحتراق، لا يكتب قصيدته حتى يضع قلبه على الطاولة، فهو مرآته التي لا تخونه، مرآة يتشكل فيها الوجه والروح…" (3)، ومرد هذا في نظرنا أن محمد السعدي يهرب من الالتزام المجاني مع القارىء، وليس في نيته أن يفرض على القارىء قراءة معينة، فالمجموعة على هذا الأساس مفتوحة على كل القراءات، ومادام الشاعر نفسه لم يقيد قارئه بتعاقد معين، فليس أسهل على القارىء من أن ينطلق من مخزونه الثقافي والقرائي ليكون تصورا ما تجاه النصوص الواردة في المجموعة، وليست تقدمة/"تأخيرة" عبد الناصر لقاح إلا ممارسة لحق قرائي محكوم بشكل توزيع النصوص قبل كل شيء، وهو أمر مقبول عندنا، لكن المشكلة أن الشكل نفسه قد يكون خادعا في كثير من الأحيان، كما أنه ليس كل كلام مسترسل بدون أبيات أو أسطر يعد نثرا، فالمسألة ليست أكثر من "عرف خطي" أو تعاقد بصري بين منتج ومستهلك بلغة الاقتصاد المعاصر، وإلا فإن أغلب ما كتبه المتصوفة يدخل في باب الشعر، لأنه يزخر بـ "الخيال" الراقي واللغة الشاعرة (4)، ولهذا نعتبر هذه المجموعة "الشعرية" عبارة عن "مقامات" صوفية سيتولى محمد السعدي شرحها بتنويعات مختلفة في الدواوين اللاحقة(5)، أما بالنسبة للديوان الثاني الذي نعتبره أكثر نضجا -رغم أن معظم النصوص كتبت في نفس تاريخ الديوان الأول- فإن محمد السعدي يصر على التجنيس بخط عريض، ليجعل القارىء برغم أنفه يقرأ شعرا، وهو تعامل يسهل عملية تناول النصوص لكنه في نفس الوقت يخدع القارىء، لأنك في كثير من الأحيان تجد الشاعر يسافر بك عبر محطات مختلفة تستفز ذاكرتك التاريخية بالتوظيف المكثف للإحالات التاريخية والثقافية، وبدونها لا تستطيع أن تفهم الكثير من قصائده إذا قنعت بكلماته الواضحة، فالوضوح عنده أيضا خداع لمن يركن إلى البراءة المستترة وراء أسطره الشعرية، ففي بيت واحد قد تجد تاريخا يمتد إلى مئات السنين، حتى يصبح السطر الواحد لافتة تختصر عصرا بكامله (6) وهي طريقة تذكرنا بالشاعر أحمد مطر في لافتاته، وسواء كان محمد السعدي متأثرا به أو لم يكن، فإنه استطاع أن يرسم طريقته الخاصة في استعمال اللغة، فهو عكس "أحمد مطر" لا يقوم بتقنية عرض "الأحجية" ثم تنفجر القصيدة في الأخير فتسمع ضجيجها ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، بل تدفعك في يسر إلى تفكيك عناصرها لتبحث عن خيط رفيع يلم شعث القصيدة بعد عناء القراءة.
(3)
الإشكالية الثانية التي تطرح ونحن نتصفح الديوانين المتقدمين، هي إشكالية المدرسة الشعرية التي يمكن أن تؤطر أشعار محمد السعدي، ومع يقيننا بأن البحث في المدرسة الشعرية قد لا يفيد كثيرا في الشعر الحديث عموما وفي الحالة التي نتعامل معها بوجه خاص، فإننا مع ذلك نسارع إلى إبداء الملاحظتين التاليتين:
- بصريا فإن الديوانين معا حافلان بالرموز الدينية والتاريخية، وهذه الملاحظة تقودنا أردنا ذلك أم لم نرد، إلى التفكير في القواسم المشتركة بين شعر محمد السعدي، والشعر المصنف في إطار ما يسمى اصطلاحا في النقد المعاصر بـ "الشعر الإسلامي"(7)، ومع اعترافي بصعوبة تناول هذا المفهوم الجديد الغريب، خاصة في ما يتعلق بحدود المصطلح، بافتراض اتفاقنا عليها، فإن شعر محمد السعدي يقترب كثيرا من هذا الاتجاه ويجري في فلكه، لكن بحذر شديد فإن محمد السعدي من جهة ثانية سريع في ردود أفعاله، كبرياء الإنسان والشعر، وسلطة اللغة، وقهر الأحداث، تجعل منه شاعرا متمردا لا يقبل الخنوع والذل، حتى من اللغة نفسها، إنه بحق "شاعر حتى الاحتراق"(8)، شاعر متمرد على القيم السائدة، قيم لا تعير اهتماما للذات الإنسانية، عندها يصبح الإنسان مجرد حلقة، كغيره من أنواع المخلوقات مادة من المواد المبعثرة على طاولة الأحداث، ليس له نصيب من التميز الحضاري، والسمو الأخلاقي. هذه الوضعية المزرية في سلم العلاقات الإنسانية يقف منها محمد السعدي موقف الهارب الناكص على عقبيه، فإذا حاولت أن تقنعه بأن يسير مع الموجة العارمة، وأن ينساب مع التيار الجارف، فإنه يلجأ برباطة جأش قل نظيرها إلى عبير مجرته يستلهم منها عشقه للكلمة الطيبة يستمدها من عبق الكلمة الطاهرة من تاريخ القبيلة المثلى، تاريخ لا نقرأ عنه إلا في بطون الكتب الماضية، بمرارة أحيانا نرجو عودته، لكن التاريخ هو الآخر لا يستجيب لدعوات الشاعر مهما صدق، ولا يخضع لمعيار اللغة مهما سمت، ولا يعانق فينا براءتنا الشفافة مادامت دواليبه لا تتحرك بمنطق الحروف والكلمات، بل بدواليب المصلحة المتبادلة والصراع النفعي إلى حد الموت، هذه الأزمة القيمية هي جوهر شعر محمد السعدي، وكلمته التي اصطفاها لنفسه ردا على عبث العابثين وتملق المتملقين، إن محمد السعدي حينما يختار الكلمة الطيبة التي لا تخدش قيم الآخرين فإنه ينطلق من مبدإ أن الشعر الجميل يبقى جميلا مهما تلون بمسوح المدارس والاتجاهات، وأن الشعر العظيم يبقى عظيما سواء سمى نفسه إسلاميا أو كان غفلا من الاسم، فالشعر عنده ينطلق أساسا من الذات الواعية المتفاعلة مع الأشياء تفاعلا حيا، لكنه عكس الشعراء الذاتيين لا يبكي أبدا، واقرأ ما تشاء من شعره، فلن تجد سطرا واحدا يبكي فيه صاحبه، بل قد يحس القارىء بموطن البكاء في سياق من السياقات، فإذا بحثت عن كلمة واحدة تبكي فإنك لن تجدها، بل إن أدعى المواقف للبكاء يتحول عند محمد السعدي إلى واحة للغناء، في موقف الشنق لا يجد الشاعر أمامه إلا الغناء:
أغني للفراق وشهقة القتلى
وبي أرق!
تقوم الأقحوانة تحت مشنقة
وقضبان
أغني للشهادة والخلود بجنة الخلد.(9).
- الملاحظة الثانية هي أن محمد السعدي تخلص من "عقدة الصورة الشعرية"، فعلى العكس مما يلاحظ في الشعر المعاصر من التطرف المزدوج، فئة من الشعراء تجعل همها الأساس التكثير من الصور الشعرية، وتضخيمها حتى تصبح القصيدة معرضا للفنون التشكيلية، وهو تطرف في نظرنا لأنه اعتداء على تخصص الآخرين، ومهما حاولت أن تبدع لغة بصرية فإنك لن تستطيع أن تنافس أهل الاختصاص، ومهما حاولت أن تنمق اللغة بأنواع الأصباغ وضروب الخطوط والأشكال والظلال، فإن لغتك تبقى قاصرة عن منافسة اللون الطبيعي لون الوردة والماء والسماء، وأقل ما يقال في هذه الحالة أنك تمسخ الأشياء وتسيء إلى اللغة من حيث تظن أنك تمارس فنا نبيلا. والفئة الثانية من الشعراء – وأغلبهم محسوب على الاتجاه الإسلامي نستثني منهم ثلة معدودة- يسارعون إلى تقرير المعاني تقريرا، فيصبح كلامهم أقرب إلى خطب المساجد منه إلى الشعر، وقد يكون من المفيد لهؤلاء أن يبحثوا لأنفسهم عن جنس آخر يجلي من مواهبهم، ويجدون فيه متنفسهم. هذان الاتجاهان كلاهما متطرف في فهم الشعر وطبيعته، فالشعر ليس هو الصورة الشعرية كما أن البحر ليس هو زرقة الماء، ومن هنا تأتي أزمة التلقي في الشعر المعاصر، كما أن تقرير المعاني تطرف من نوع ثان، وقد يكون في نظرنا أكثر تطرفا من النوع الأول لأنه لا يسهم في ارتقاء الأذواق ولا نمو المدارك، بل أكثر من ذلك يقدم الفكرة مبتذلة واهية مكشوفة، تمارس السفور وهي تدعو في الصميم إلى الاحتجاب، وهذه ازدواجية في الخطاب عند هؤلاء حري بها أن تصحح.(10)، في حالة محمد السعدي فإن الأمر يختلف، لأنه يجمع بين التجربتين، فهو تارة يلجأ إلى الصورة الشعرية حتى تظن أنه يقصد إلى ذلك قصدا، حتى إذا ما اتخذت قرارا بتصنيفه في الموجة الجديدة التي اتخذت من الصورة مطية لها، فاجأك بأسطر تقريرية قريبة من النثر وما هي بنثر، فتتذكر أقطاب المدرسة الكلاسيكية وأعلامها البارزين، فيتركك حائرا بين أولئك وهؤلاء، وكأن مدرسة تتوارى خلف مدرسة دون أن تكشف عن نفسها، وهي مزية تحسب له لا عليه، لأنه يلجأ إلى الصورة حينما يستحيل التعبير بلغة تقريرية، ويلجأ إلى التقرير حينما تعز الصورة، فهو بذلك العمل يضع الأمور في أماكنها حيث ينبغي أن توضع، وفي ديوانه الثاني "عبير المجرة" شذرات كثيرة تشهد لما نقول، فتأمل قوله:
ستوقظني خطوات
وميلاد موج
قبيل شروق الشموس
فأعلن في الأرض أني
شهيد سأولد بين الحراب
وأختي ستأتي مقنعة بالحجاب (11)
فأنت لا تستطيع أن تفهم جمع "الشموس" إلا إذا قدرت محذوفا كما جرت العادة عند النحويين، لأن الجمع غير مبرر في عالم الحس والشهود، وليس في عرفنا سوى الحديث عن شمس واحدة، وكأن الشاعر يقصد "شمس الشموس" على نية القصر من حيث المعنى، وأنت هنا – إذا كنت مدمنا قراءة الشعر ولا تستهلكه كما تستهلك السلع التجارية- مضطر إلى أن تعطي نفسك حرية الخيال في اكتشاف هذا العالم الذي يرسم لك فيه الشاعر زمن التحقق وهو قبيل الشروق، ويرسم لك فيه الحالة: بين الحراب، وهي إيحاءات لا تدل أبدا على الاستمرار بقدر ما تدل على الفناء، في هذه اللحظة الدالة على الموت يعلن الشاعر أنه شهيد= ميت لكنه يولد لا يموت، وكلها صورة مركبة تذهب بك بعيدا إلى الطقوس الشيعية ومراسيم الموت وتاريخ الفتن في العهود الماضية، لكن يختمها الشاعر بجملة تقريرية بسيطة من حيث التركيب: وأختي ستأتي مقنعة بالحجاب، شعريا تستطيع أن ترفض هذه الجملة إذا شئت، أو أن تجعلها لافتة في مظاهرة سلمية، لكن مع ذلك فإن هذه الجملة لا يمكنك أن تستبدلها بغيرها دون أن تقتل المعنى الذي يريده الشاعر، لاحظ أن الزمن كله لا يتحقق إلا في المستقبل، فإذا تقرر عندك هذا وأدركته على الوجه الذي بينته لك، فوازن الآن بين حركة التاريخ الماضية بالإحالات التي حدثتك عنها وهذا المستقبل المجسد في الأفعال، أليست اللحظة عند الشاعر هي عبور نحو المستقبل، وأن التقريرية في هذا المقطع الذي عينته لك تخدم الصورة وتبين حدودها، وخذ ما شئت من مقاطع الديوان الثاني فإنك واقف على ما ذكرته لك وبينته.(12)
(4)
صنف القدماء في الرقائق والأخلاق مصنفات مختلفة، وبعضهم قسم هذه المصنفات إلى مقامات إيمانية غرضه منها تسهيل الارتقاء بالإنسان من مقام إلى مقام حسب همة الشخص واستعداده النفسي والجسدي، وصبره ومصابرته، ومن خصائص المقام في منهجية التأليف أن يدور فحواه على موضوع واحد، فمهما تفرعت موضوعاته فلا بد أن تجتمع كلها في نفس المقام، وهذا المنحى شبيه بالدراسات التيماتية في الدرس النقدي الحديث، ابتدأت بهذه الإشارة لأنني وجدت أن دراسة شعر محمد السعدي مفيدة إذا ركزنا على هذا الجانب فيه، خصوصا أن هذه الطريقة تساعدنا على كشف الخيوط الممكنة لقراءة تيماته الأساسية، وبذلك استطعنا أن نرجع الديوانين معا إلى مقامات ثلاث هي في نظرنا مدار شعر محمد السعدي، وهذه المقامات هي على التوالي:
·         مقامة الشعر.
·         مقامة الشهادة.
·         مقامة المنفى.
-1  مقامة الشعر أو الإبداع المستحيل:
اعتنى محمد السعدي بالشعر وهمومه عناية خاصة، إلى درجة يمكن القول معها إن الشعر هو هاجسه الأول، فمن أصل ثلاثة عشر نصا في ديوانه "عبير المجرة" تكرر ذكر الشعر إما صراحة أو ضمنا، باصطلاحه أو بمشتقاته ثلاثة عشر مرة، أي بمعدل مرة واحدة في كل نص شعري، في حين تكرر نفس الموضوع في ديوان "الشهيد" البالغ عشرة نصوص سبع مرات، وكأن القصيدة عنده لا يمكنها أن تقوم لها قائمة دون أن يكون الشعر حاضرا فيها بوهجه الخاص وهمومه المؤرقة، فالشعر عنده هو قيمة القيم، التي عنها يدافع، وبدون هذا الدفاع لا يمكنه أن يبلغ صوته المتقطع مبشرا بعهد جديد وقيم مبنية على الحب والتسامح والرأفة بالآخرين، على أساس أن الشعر هو موطن تحقق الذات الشاعرة:
نشيد بالدم المسفوح مكتوب
وتلك مدائن تبنى على جسدي
أنا الإنسان والزفرات إبداعي
وأشعاري انفجاري والمدى وطني (13).
إن الشعر هنا مقوم من مقومات الحياة، فهو السلاح الذي يحارب به الشاعر صراعه مع الكائنات، الشعر انفجار، وليس هناك انفجار برىء يولد ليموت، انفجار النفس أمام واقع معفن يفرض على الشاعر فرضا، ويدعى إليه ليسير في ركبه، لكن الحياة لا تعترف بسلطة الكلمة، وإذا وقع أن اعترفنا لها بهذه السلطة الرمزية، فعلينا أن ننتظر أجيالا بعد أجيال لنرى ثمارها بأي شكل من الأشكال، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا النص كتب في "باريس" تأكد لنا أن الهموم الشعرية لا تعترف بوطن، ولا يكبح جماحها المدى مهما بعُدَ، إن هذا الانفجار سيتحول عند الشاعر في ما بعد إلى تمرد على المؤسسة الرمزية للشعر والشعراء، فمثلما تجتمع "المافيا العالمية" على تجارة الممنوعات وتبيح لنفسها أنواع المحظورات، كذلك يمثل الشعراء "عصابة" مصالح يتغزلون في عورات النساء ويصفون الورود وضروب الجمال من حيث كان ينبغي لهم أن يعانقوا قضايا الأمة ويدافعوا عنها:
وبيروت ليلا
بها الموت يعوي
وينشد شاعر هذا السلام
قصيد الغرام
بعيد العشاء
وبيروت في النعش! (14)
فهم بهذا الاعتبار أشقياء أمام طفلة من القدس تسأل الشاعر في براءة عن هذه الأمة:
سأمضي
فأبحث عن موجة في فم الأرخبيل
أقبل صبري وأشدو رحيلي
عذارى الصحارى
ولون النخيل
هنالك!
تمردت وحدي على دولة الشعراء
وتسألني طفلة القدس عن أمة الأشقياء. (15)
إن عصابة الشعراء الوصوليين هذه لا يمكنها أن تسود، ولا ينبغي للشعر أن يستمر فهو أكذوبة خادعة نلمع بها الواقع مثلما نلمع صورنا في المرآة، ولذلك يستوي عند محمد السعدي في الدرجة الشعراء والعلماء والجبناء، كلهم لا يقومون بواجبهم:
مزق قريضك يا أخي
فالعقم للشعراء والعلماء والجبناء! (16).
عند هذا الحد يحس الشاعر محمد السعدي بالانهيار التام، فيمسي كل شيء عنده منهارا، ويعلن عن دولته الشعرية:
دمائي قصائد
بلادي حصـــائد…! (17).
حتى الأشياء التي كان يرجو أن ينبعث منها بصيص من الأمل الخفي تنهار، بيروت والعروبة والشعر:
تنهار بيروت الشهيدة والعروبة والدمى
والشعر انهيار.(18).
لقد انهار كل شيء فجأة، لم تعد الأشياء هي الأشياء، ضاعت خرائط الأسماء، مفاتيح الوصول، وفي المقابل كثرت الشياطين، فما كان من الشاعر سوى أن يبحث عن قبس من الغيم ليخلطه بزوبعة من زوابع الشعر، وأنى له بتوابع وزوابع ابن شهيد، أو شياطين عبقر، أو غيمة الطائي، هذه الأشياء الجميلة التي كانت بالأمس القريب رمزا للعبقرية الفذة والطموح الشعري النبيل أصبحت اليوم عقبات في وجه الشاعر، ضيعت الأسماء والمسميات، وما خلقت الأسماء والمسميات إلا لتعلم للناس قاطبة، لكن في عالم مليء بالفوضى، مليء بالقتل والاغتيالات ومشاهد الدماء، لا مجال لمعانقة الكلمة والبوح بأسرارها:
علم هناك وطفلة مقتوله!
وعلى الجريدة شاعر يغتال
تغدو القصيدة والقضية لجة
طاحونة
تتبدد الأسماء والألقاب…(19).
ولذلك يعلن الشاعر عن نهاية القصيدة غرقا:
طوى الموج جسر القصيد
وروغ القرود
لمد الصمود…! (20).
ويعلن حربه على الشعراء المتملقين:
[…]
وأمحو الليالي لأعلن حربي على شاشة
الشعراء الأولياء. (21)
على أن الشعر عند محمد السعدي يصبح جواز سفر إلى الماضي، حنين مؤرق نحو الصفاء الذي ولى فجأة، لكن الشاعر لا يندهش أمام عظمة التاريخ، لا يقرؤه في الظل، بل يحاول أن يشارك في صناعته وصياغة بنوده، التاريخ يصنعه الأقوياء، ولا مجال لمن يتفرج عليه بعد أن يصاغ،" هكذا الحياة، الطغاة والضعفاء يصبحون بعد الموت مجرد أسماء يلوكها التاريخ، وإن كانوا في كتب التاريخ وتسلسل الأسماء، وورودها في الحوادث على درجة واحدة: اسم مساو لِاسم، إلا أنهم عند الله ليسوا كذلك، ولا أثرهم في الحياة كذلك، كما أن قتلى الكفار في معركة ليسوا على درجة قتلى المسلمين في المعركة نفسها وهذه عبرة الحياة (22 )، على أن هذه النظرة إلى التاريخ تبقى نظرة نسبية لأن التاريخ لا يميز بين المسلم وغير المسلم، لا يعترف إلا بالذي يترك فيه أثره إن سلبا أو إيجابا، في عجلة التاريخ يقف بشار بن برد معانقا عمر بن الخطاب، وقد يكون أثر "هتلر" أبرز من أثر عظيم من النساك في تاريخ الأديان كلها، أمام هذه النظرة إلى الحياة والتاريخ يختار محمد السعدي اتجاها "كونيا"، حيث تتعانق الأشياء في تناغم تام، اقتناعا منه أن جميع المخلوقات متساوية من حيث الجوهر أمام حركية الإبداع:
والكون ملحمة الورى
تتعانق الأطلال والأغلال والأحجارُ
والأشجار والأقمار والأسفار والأفكارُ
والأشعار والأعمار…(23)
2-  مقامة الشهادة والاستشهاد:
ليس في شعر محمد السعدي موضوع يشدك إليه شدا، ويأخذ انتباهك أخذا، أكثر من موضوع الشهادة والاستشهاد، فهو هاجس الشاعر الذي لا يكاد يكتب سطرا شعريا واحدا دون أن يتسرب إلى شعره قبس من أطيافه، وهو إصرار لا نعتبره غريبا في الشعر الإسلامي، بل ولا في غيره من الآداب العالمية، وإن بمسميات أخرى أفرزتها طبيعة اللغة ومفرداتها، وثقافات المجتمعات المختلفة على مر الأزمان، ففلسفة الموت حاضرة بقوة في الشعر القديم بصور متنوعة، بل من الشعراء من بحث عن الموت بقدميه، فلما اطمأن ببعد مناله أقدم عليه راضيا مرتاحا قرير النفس، هربا من قسوة الحياة وظلم الناس، أو طمعا في الحياة السرمدية بعد الموت، وهي حالات وقف عندها علم النفس الحديث بكثير من التفصيل وربطها بالجنون والعبقرية تارة وبالعقد النفسية والحالات المرضية تارة أخرى، ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه الظاهرة الغريبة في شاعر- أي شاعر- نحسبه يتغنى بالحياة ومباهجها ويفرح لشروق الشمس، ويغني للغاب، ويعلم الناس الحب، أليس الشاعر نبيا يبشر بالقيم الخالدة؟!، لكن موضوع الموت، أو لنقل الشهادة والاستشهاد، عند محمد السعدي يختلف كليا عن الموت عند كثير من الشعراء المعاصرين، وإذا شئت أن تقارن وكنت من مدمني قراءة الشعر الجميل فقارن بينه وبين "أمل دنقل"، أو بينه وبين "الشابي"، فمحمد السعدي في شعره لا يميز بين موت ولا حياة، فهما عنده سيّان، فنحن في غالب الأحيان حينما نهم بفعل حياتي ما نطلب الحياة وطول العمر لإنهاء ذلك العمل، لكن محمد السعدي لا يحقق شعرَه إلا بالموت/الشهادة، فالشهادة ولادة، مخاض، منها تنبعث الحياة، الشهيد لا يموت وإنما يولد، وبغض النظر عن التوجه القرآني الذي يحكم رؤية محمد السعدي، فإنه يلون موضوع الشهادة بألوان الحياة المختلفة معتمدا أجمل ما في الطبيعة من عناصر: الثريا، النجوم، النهر…حتى تتحول عناصر الحياة إلى عناصر للموت:
تحت الثريا والنجوم تزغرد
ولد الشهيد وحيدا
وتلظى
في خندق ثم انجلى
والأرض زوبعة وقبلتها سراب من لهيب…(24)
وقد تبدو سمات الانتحار واضحة في شعره بعد عسر القراءة، وأظن الشاعر لا يستطيع أن يبوح بها لأقرب أقربائه انسجاما مع الروح الإسلامية، والنظرة الكونية التي آمن بها إيمانا عميقا، والتي تحكم الإبداع الشعري عنده، ولكنك رغم اختلافك مع الشاعر ووجهة نظره، لا يسعك إلا أن تسجل هذه الملاحظة عليه، فلعلها زلة قلم قصمت ظهر البعير، لكنها كلمة موحية، أخذت موقعا لها في شعره، ولست أدري إذا كان قد انتبه إليها أو لم ينتبه، جاء في الديوان:
تعود ذئاب الخريف الرمادي
وترسو
على جسدي البالي
دمي غصة الانتحار
أصيح
وتشتعل الأقحوانه
فلا عرب في كتاب الشهادة
وعفوا
سأرتحل اليوم (25)
فهل يجيز الشاعر "الإسلامي" لنفسه أن يفكر في الانتحار، مجرد التفكير، رغم ما قدمه من تبريرات في الأسطر الشعرية التي قدمتها؟ على أن الذي يشفع في نظري للشاعر من الوجهة الإسلامية هو أنها جاءت يتيمة في سياق الديوان، كتبها في عفوية تامة دون أن يراجعها، تحت ضغوط الشعر ومخاضاته، وهذه الظاهرة عندي شخصيا ليست سلبية تماما، وهي من وجهة نظر"الرؤية الإسلامية" للأدب غير مقبولة، فعلينا ألا نتدخل في إبداع الشاعر ونحاكمه قبل إنتاج النص، بأية مرجعية كانت، إسلامية أو غير إسلامية، ولنترك المسألة لتربية الشاعر وروح عقيدته، فلا يكفي لإنتاج أدب "إسلامي" أن نسطر للشاعر كذا عددا من "البنود" ونطلب منه تطبيقها في إبداعه، وهذا لعمري سوء في الفهم، وتبسيط مخل بروح الأدب لا ينتج أدبا إسلاميا راقيا، بقدر ما ينتج مرتزقة كلام يلوكون عشبا نضيرا بأسنان من ورق، وقد وردت كلمة الانتحار عند محمد السعدي تعبيرا عن مرارة خانقة، عندما فتش عن معاني الشهادة في أمة ضربت المثل الأعلى في الموت من أجل المبدأ، ففتح كتاب الشهادة فلم ير أحدا، فكأني به يردد قول من قال:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
فقرر محمد السعدي الارتحال من هذا العالم الذي أصبحت الشهادة عنده مبعدة من قاموسه اليومي، وأصبح الخنوع والذل هو السائد في أمة أصابها الوهن وكراهية الموت، هذه الوضعية التي لا يقبلها محمد السعدي أفرزت عنده رجوعا نحو الذات حين بدأ يطلب الشهادة لنفسه، لعله يكفر عما بدر من العرب ويصبح رمزا للفداء:
مناي الرحيل
إلى جنة الشرفاء
في موكب الشهداء (26)
وقوله:
أغني للفراق وشهقة القتلى
وبي أرق!
تقوم الأقحوانة تحت مشنقة
وقضبان
أغني للشهادة والخلود بجنة الخلد (27)
كما أن مفهوم الشهادة والاستشهاد يجعل منه محمد السعدي تقويما/ تأريخا لحياته، فلم تعد السنوات والشهور والأيام صالحة لتقويم البؤس البشري، ولا لدفق الدم في القلوب، وإنما اختار تقويما جديدا فلنستمع إليه يقول:
[…]
وجارية تشتكي
يضيق سلامي
فأختار تاريخ شنقي
على ضفة الزهر ظهرا (28).
بل إنه يؤرخ لإحدى قصائده بجراحه: "وجدة بتاريخ: الجرح الخامس عشر في أسفل القلب (29) بل إنه أكثر من ذلك يمتلك عصا سحرية يحول بها جراحه إلى عصافير تتلو صلاة الجهاد:
تصادر أضواء هذا الوجود
ويقتلع الطلح كي ينصب المرتقى بالنجود
أحول جرحي
عصافير تتلو صلاة الجهاد
يطل الهلال، يسيل دماء
تصير خلايا الفؤاد
سيولا، خيولا، رعودا وجسرا…(30)
وهو ما يبين الأثر النفسي العميق في تفاعله مع المحيط الخارجي بأحداثه وتفاصيله، ليس جرحه إلا لدمة واحدة من لدوم الجسد العربي الممزق أصلا، وليس من حقنا أن نطالب الشاعر أكثر مما يرتضيه هو لنفسه، فحينما نكون خارج الأحداث قد نسوغ لأنفسنا حق النقد، ونقول ببساطة بريئة في أحسن الأحوال: ألم يكن من الواجب على الشاعر أن يكون أكثر تفاؤلا، وأقل تيئيسا، لكن هذه الصورة الكلامية ليست في الواقع إلا تزييفا للحقيقة التي يؤمن بها الشاعر ويدافع عنها دفاع المستميت، كيف يطلب من الشاعر المعاصر أن يكون متفائلا بلا حدود وهو يرى أن مملكته الشعرية استولى عليها هواة الكلام ومسترزقة الفكر، إننا بفعلنا هذا نكون كمن يطلب من الجرذان أن تنظف أفواهها في الصباح بالماء ومعجون الأسنان، وحين ندخل مجال الشعر، ونتجول قليلا في أدق تفاصيل النفس الإنسانية ندرك أن الشاعر الصادق مع نفسه لا يستطيع أن يزوق الإحساس الجميل والشعور النبيل ليرضي طائفة من المحسوبين على الشعر.
وفي لحظة من اللحظات يصبح مفهوم الشهادة والاستشهاد عند محمد السعدي مرادفا للبناء بأدق معانيه، تغيير جذري لاقتلاع الحدود الوهمية بين الإنسان والإنسان، بين العقل ومخلفاته/ فضلاته:
باسم الشهيد وباسم قافلة العبور
أمضي لأقتلع القيود
كاللغم أقتلع الحدود
أبني منارات الجسور
رغم انهيار دياري
والتيار. (31)
ولا غرابة إذا رأينا محمد السعدي يعتبر التاريخ هو أول الشهداء، التاريخ العربي برموزه الخالدة، تاريخ اكتسب قوته من قوة رجاله، فأعزهم وأعزوه، اقتبسوا من فيضه شموخهم وأنفتهم، فأصبحوا منارات عند العدو قبل الصديق:
شارة فوق الشموخ
ينحني التاريخ إجــلالا لعز الأقوياء
إنه أول أحفاد الشهيد. (32)
فلا مجال في التاريخ للضعفاء، التاريخ لا يعترف إلا بالذين يغذون نهره بروافد من آثارهم الخالدة، والتاريخ الحديث يشهد بهذا، فمع أن تاريخنا الحديث هو بلا شك تاريخ دموي إلى أبعد الحدود، إلا أنه مع ذلك تاريخ جني ثمار العقل البشري في أرقى صوره، ولا يستطيع العاقل أن يكون خارج التاريخ بذريعة أن العصر عصر ظلم وانحطاط أخلاقي، ومتى كان في التاريخ كله عصر لم يسلم من الرذيلة والحروب؟! الفرق البسيط أن انتشار الإعلام وقوة تركيزه أظهرت للعيان ما كان بالأمس مستترا، وأفصحت عما كان إلى أمد قريب لا يعرفه إلا المقربون من سدة القرار، فبدا الأمر وكأننا نعيش عصرا استثنائيا، لكن قراءة عميقة لسيرورة التاريخ توضح بجلاء أن عصرنا ليس سوى حلقة واحدة من حلقات متلاحقة، وأن الأمر طبيعي من هذا الجانب.
لا يخفى في شعر محمد السعدي أنه متعاطف مع القضايا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فليس هناك بؤرة ظلم إلا أشار إليها محترقا، الأزمة الفلسطينية حاضرة بظلالها والحرب الأفغانية والعراق…، مما يثبت أن الشاعر يعيش عصره ويوثق الجانب الأكثر مساسا للنفس الإنسانية، وهو الإنسان البريء الذي تقتله الآلة العسكرية، وهو لا ناقة له ولا جمل في النزاع، الأطفال الذين لا يميزون بين أقلام الرصاص وفوهة مدفع رشاش، يجدون أنفسهم ثمنا لصراع المصالح والاسترزاق:
وأمشي
كنهر يفيض دما فوق مائدة الاغتيال
وأمسك خطو القتيل
ودمع الفطيم
لتصعد شمس الخليل (33)
كما يتخذ من الجهاد الأفغاني قدوة ومنارة يهتدي بها يقول:
أفغان فوق تلال قلبي والربى
بين سطور شعري والنهى
وخريطة الشهداء بين يدي هدى. (34)
ويعتبر هؤلاء الشهداء من أجل قضيتهم العادلة أحجارا كريمة مقدسة، لأنهم ماتوا ليحيوا، ونحن نحيا موتنا الأبدي، وليس لنا من خلاص إلا طلب الشهادة:
حـــان ميلاد البتول
فلتطوق ساعديك اليوم بالكون الوليد
ولتيمم صوب كنعان الوحيد
كي تنادي يوم عيد
تلك أحجار كريمة
وأنا أرجو الشهادهْ! (35)
3-  مقامة المنفى أو سفر الروح:
الإحساس بالمنفى يلاحقك في شعر محمد السعدي، تراه جاثما وراء كل لفظة شعرية من ألفاظه، ورغم ذلك لم يخصص لهذا الموضوع إلا نصين اثنين تحدث فيهما عن النفي والمنفى بصراحة لا تقبل التأويل، فهو مسكون بالنفي واعتزال العشيرة، باحثا عن الاغتراب في أحضان السجون والظلام، ولو توقف عند هذا طويلا لأجاد وأبدع، فهو يذكرنا بالتراث القديم متمثلا بأبي فراس الحمداني:
سأهدي للفلاة فؤادي المنفي
وأعتزل العشيرة حين تنحتني
طحالب بين أشجار الكروم
وأمزج صرختي بالاغتراب
وجنة العصفور
سأروي للزنازن قصتي الأولى
وأحكي للظلام رسائل السجن
وأنت تصادرين فصول أحلامي. (36)
يجمع محمد السعدي في هذا المقطع بين أوزر ثلاث: المنفى والطبيعة والمرأة، وهي عناصر اعتاد الشعر العربي عليها، لكن الشاعر لا يفصل فيها تفصيلا بل يكتفي بالتلميحات الموجزة، لا يثرثر، ولعل هذا ما جعل القصيدة عنده قصيرة بالنظر إلى ما يعرفه الشعر المعاصر.
إن المنفى يشبه الشعر من نواح عدة، فكما أن الشعر يحرر المبدع من إسار اللغة، ويوحده بالكائنات، معتمدا تجاوز المألوف وأنظمته الاختزالية، فإن المنفى يؤكد هذا الخرق ويزكيه، فهو يجعله يعانق الجرحى، بل أكثر من ذلك يوحده مع نخيل أجداده، فالمنفى إذا يمثل عند السعدي رجوعا بالتاريخ إلى الوراء واستقراء آلياته لفهم الحاضر، يقول محمد السعدي:
والوجه بيع على رصيف الانفجار
وأمر للتيه الأخير
ألقي فؤادي في الهشيم
في الحريق
وأمر للمنفى وأسلاك السجون
لأعانق الجرحى ونخل جدودي. (37)
على أن هناك صورة أخرى من صور النفي عند الشاعر، فهو كثير التنقل لا يستقر على حال، فيضيف لغربة الشعر واللغة غربة المكان، ودليلنا على ذلك أمكنة كتابة قصائده، فنحن نستطيع بيسر وسهولة أن نرسم خارطة لتنقلاته المكانية من خلال الديوانين السابقين، ففيهما من البلدان: المغرب والجزائر وفرنسا، وفيهما من المدن وجدة وتازة وطنجة والصويرة وباريس ومونتارجي ووهران وتلمسان مما يدل على كثرة التنقل وعدم الاستقرار وهي ظاهرة عرف بها كثير من الشعراء، والغريب في شعر محمد السعدي أن "النفس الشعري" عنده ثابت لا يتغير فالقصيدة لا تطبع بطابع المكان، فأنت مثلا لا تستطيع أن تميز بين قصيدة كتبت في باريس وقصيدة كتبت في وجدة أو تلمسان ومرد ذلك في نظري إلى أن محمد السعدي كان يحمل همومه معه أنى رحل، لاحِظ أنه في باريس يكتب "نشيده بالدم المسفوح"(38) فكيف تكون في باريس ويأتيك هذا الإحساس؟! كيف يغني الشاعر في باريس "للفراق وشهقة القتلى"(39) إلا أن يكون شاعرا تنسيه قضيته التي يدافع عنها سلطة الناس والمكان؟

 
الهوامش:
  1. صدر عن المطبعة المركزية بوجدة 1989.
  2. صدر عن المطبعة المركزية بوجدة 1990.
  3. انظر الغلاف الخارجي لديوان الشهيد تقديم عبد الناصر لقاح.
  4. اقرأ على سبيل المثال ما كتبه أحمد بن المبارك في كتابه: الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، دار أسامة، بيروت/1987.
  5. سنفصل الكلام في هذه النقطة في مقالة لاحقة.
  6. راجع على سبيل المثال عبير المجرة، ص 23-25-31-41-43-55-…
  7. -عرف محمد قطب الأدب الإسلامي في كتابه منهج الفن الإسلامي ص 256/1961 بقوله:"التجربة الشعورية الخاصة المفرغة في صورة جميلة موحية من القول الصادر عن التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة".
  8. -كلمة عبد الناصر لقاح الغلاف الخارجي لديوان الشهيـــد.
  9. الشهيد، ص 19.
  10. انتبه إلى هذه الملاحظة أحمد شراك في مقال له نشرته مجلة "البحرين الثقافية" (بحرينية) تحت عنوان: (تأملات في الكتابة ((هنا)) و ((الآن)) الاحتجاب والحجاب)، ع35/2003 ص 7.
  11. عبير المجرة، ص37.
  12. راجع مثلا عبير المجرة: ص 42- 43- 56-61- 52
  13. الشهيد، ص17
  14. عبير المجرة،ص 32.
  15. الشهيد، ص27
  16. الشهيد، ص 65
  17. عبير المجرة،ص7.
  18. الشهيد، ص 64.
  19. عبير المجرة، ص 23.
  20. عبير المجرة، ص 14. ولعل قصيدته جنازة شاعر تصف بعمق فجاعة الشاعر في موقف موته ص59 من نفس الديوان.
  21. عبير المجرة،ص 35.
  22. حيدر قفه: (كلمات فلسفية في مجموعة جهاد الرجبي القصصية (( لمن نحمل الرصاص؟))، مجلة المشكاة (مغربية)، ع20/1995، ص 52.
  23. عبير المجرة، ص 70
  24. -الشهيد، ص11.
  25. الشهيد، ص 30.
  26. عبير المجرة، ص7
  27. الشهيد، ص 19.
  28. -الشهيد، ص 50.
  29. الشهيد، ص 13.
  30. عبير المجرة، ص 13.
  31. الشهيد، ص 69
  32. عبير المجرة، ص 20.
  33. الشهيد، ص52.
  34. عبير المجرة، ص 69.
  35. عبير المجرة، ص 48.
  36. الشهيد، ص 55.
  37. عبير المجرة، ص 52.
  38. الشهيد، ص 17.
  39. الشهيد، ص 19.